جاء لقضاء إجازته في السودان وعاد أكثر هماً.. شارد الذهن يقضي وقته وهو يسافر مع دخان سيجارته الذي يتلوى في حلقات تفتك بالبقية الباقية من حباله العصبية. قال لي: تصور لم أكن أظن أن الأمور ستنتهي بي الى هذا الحد. فقد ذهبت للسودان عازباً وفي نيتي الزواج وعدت الآن عازباً وليس في نيتي عمل أي شيء.. والسبب كله يعود للعربات ... لعن الله العربات واليوم الذي عرفنا فيها العربات. وقد بدا لي منطقاً غريباً، فما دخل العربات في عودته عازباً حتى يصدر عليها أحكامه تلك؟ وكان لا بد لي من الخوص معه في حوار لأعرف ذلك السر العجيب قلت له: ولكن ما داخل العربات في هذا الموضوع؟ أجاب بعد أن أخذ نفساً عميقاً: الحكاية يا صديقي طويلة، ولكن يمكن اختصارها.. لقد قضيت زمناً طويلاً في الغربة وأنا منشغل بأمور تتعلق بأسرتي وتأمين القوت والكساء والمصاريف لأفرادها مثلما يفعل بقية المغتربين.. وطيلة هذا الوقت لم ألتفت لنفسي حتى رأيت ذات يوم بعض الشعرات البيضاء قد كست جزءاً من رأسي، فانتبهت الى أنه قد حان الأوان لكي الحق بمشوار الزواج. ولما كنت قد انقطعت عن البلد مدة طويلة لم تكن هناك بنت معينة أفكر في الزواج منها، وكل الذي اعرفه هو أنني مشروع زواج جاهز وإنني سأغادر للسودان لإكمال هذه المهمة. ولكن قبل أن أغادر أحضر لي أحد الأصدقاء مجموعة من شرائط الفيديو التي سجلت عليها مراسيم زواج لعدد من الناس. وتجولت في سياحة رهيبة امتدت كل اليوم لساعات وساعات وأنا أحدق في بنات الأعراس في تلك الأشرطة حتى دلتنا زوجة صديقي على آنسة قالت إنها تعرفها وتعرف أهلها وهم أناس مستورون، وان بنتهم خير من تصلح لى بعلة معتبرة. ورأيتها في الفيديو ورأيتها في الطبيعة وكانت صورتها مثلما جاءت في الفيديو جميلة وشكلها مقبول وليس هناك ما يعيبها. وبواسطة زوجة صديقي وتوصياتها والمقدمات التي قامت بها مشكورة مع أهل البنت تمت خطوبتنا، ولم يتبق إلا بعض الإجراءات البسيطة لإكمال الزواج وأعود متأبطاً بعلة معتبرة. ولكن آه من العربات التي نسميها هنا سيارات.. فهي سبب المشكلات والمحن ما ظهر منها وما بطن.. وإليك تفاصيل الأسبوع الأخير الذي قضيته قبل أن أقطع إجازتي وأعود راجعاً بخفي الرجل. اليوم هو السبت، وقد كنت في طريقي الى أمانة شؤون المغتربين عندما لمحتها بكامل هيئتها وهي تمتطي صهوة سيارة كامري جديدة من الورقة وبجانبها أفندي ضخم الجثة. وعندما ذكرت لها تلك الواقعة وذلك الأفندي صاحب الجثة الضخمة قالت بكل براءة: دا واحد ود خالتي ... وصل من البعثة وقال عايزني أمشي معاه لناس حبوبة عشان هو ما بعرف بيتهم .. وبكت المسكينة وهي تعتذر لأنها لم تخبرني أن لها ابن خالة سيصل من البعثة.. وبكيت أنا من فرط التأثر لأني لم أعرف ابن خالتها ذلك. وفي يوم الأحد في المساء كانت تتخذ لها مقعداً داخل عربة مرسيدس سوداء كالجديدة وخلف عجلة القيادة كان هناك رجل من رجال السودان الميامين يضع على رأسه عمامة كبيرة وشالاً مخططاً على كتفيه. وعندما سألتها عنه قالت لي: دا عمي وجانا هنا في البيت وقال أوديهو لناس علوية عشان ولدهم رسل ليهم مصاريف من الخارج بواسطته. وتنهدت وهي تمسح دموعها وتجفف دموعي التي سالت لأني لم أتعرف على عمها ولا على ناس علوية ولا على ولدهم الذي يرسل المصاريف من الخارج. وفي يوم الإثنين كانت تركب عربة معليش نسميها لاندكروزر ومعها واحد خنفوس لم أتبين وجهه لأن الشعر كان يغطي معظم مساحة وجهه، وعندما اتصلت بي تلفونياً وذكرت لها العربة اللاندكروزر والأخ الخنفوس سالت الدموع من عينيها البريئتين وقالت وهي ترسل تنهيدة عميقة: إنت ما بتعرف عصومة ود عمتي كمان؟ والله أنا قايلاك بتعرفو ولد حي ومرح ... وغايتو في يوم من الأيام حأعرفك بيهو. واغرورقت عيناي بالدموع وأجهشت بالبكاء لأنني طيلة هذا اليوم لم أرها «ترتكب» أية عربة.. وكنت أستعد للخروج لاحتفال بهذه المناسبة عندما ضربت هي التلفون لتخبرني بأنها كانت مع أسامة ود جيرانهم: يعني أنت كنتي مع أسامة ود جيرانكم ؟: وكنتوا ماشين وين؟ أجابت وهي تغالب البكاء: أيوه أنا كنت معاه عشان هو قال يوصلني السوق الشعبي، وطبعاً هو جارنا وكدا وما فيها حاجة، وأنا ما عايزاك تفتكر أي حاجة. وما الذي يدعوني لافتكار أية حاجة طالما إنها في مشوار توصيل للسوق الشعبي وبرفقة مأمونة مثل أسامة ود جيرانهم. وفي يوم الأربعاء وعندما أخذت الشمس تجنح للمغيب كما يقول مدرس الإنشاء كانت الزميلة تتربع بجانب أحد الأشخاص داخل عربة أمريكية من النوع الطويل الذي يحتسي البنزين احتساءً في زمن الجالون بالشي الفلاني. ولكن هذه المرة كانت الدماء تغلي في عروقي وأنا أتلفن لها، وجاءني ردها من الناحية الأخرى مبللاً بالدموع وهي تقول: يخسي عليك يعني أنت شكاك للدرجة دي؟ يعني أنت ما عارف أبوي.. الزول الأنا كنت راكبة معاهو دا أبوي ... حتى كمان سألني منك. وتساءلت وبراءة الأطفال في عيني: لكين أنتي مش قلتي لي أنو أبوكي متوفي؟ وتعلثمت في البداية إلا أنها ردت: لا ... دا أبوي الما متوفي. ووضعت السماعة وأنا أبكي أباها المتوفى وأهنئ نفسي وأباها الما متوفي الذي سيزوجها لي؟ واليوم هو الخميس عندما كانت الزميلة تركب عربة تايوتا بوكس دبل كابينة، وبكل برود كانت الزميلة تشرح لي أن ذلك هو ابن عمها الذي اشترى تلك العربة من الكرين يا دوبك أمس، وقال يفسحهم بيها. وهنأت ابن العم ذلك على ذوقه الرفيع لأنه اختار دبل كابينة ولم ينخدع مثل الذين اشتروا كابينة واحدة، والتي بارت في جميع الأسواق والكرينات السودانية، ولو أكمل جميله وكمان اشترى لوري هينو كي وأي أو ميتسوبيشي كنتر يكون ما خلي حاجة. وأثنى ابن عمها على خبرتي الطويلة ومعلوماتي الغزيرة، ووعد أن يقوم بتنفيذ تلك النصائح التي أسديتها له. أما اليوم الجمعة، فيا للسعادة فقد كان أعظم الأيام وذلك لأنها لم تمتط صهوة أية عربة، فقد كانت معي في عربتي وتجولنا في شوارع الخرطوم ونحن نتحدث في أمور الزواج وما ينبغي أن يكون عليه. وفي المساء اتصلت بها تلفونياً لأناقشها في أمر فات علي أن أعرضه عليها عندما انطلق صوت المسكينة وهي تنتحب باكية وتحلف برأس أبيها المتوفى أن الذي كانت معه اليوم في العربة هو منصور ابن خالها بس أنا ما قاعد أعرفه. أما في يوم السبت فقد صعدت الى الطائرة، واليوم الأحد أنا هنا أحكي لك وقائع ذلك الأسبوع المنصرم والحرقة تقتلني من العربات.