جلست على الرصيف المجاور لدكان عم حمزة في محاولة لقتل نهار الصيف القائظ الطويل.. اعتدنا الجلوس كصف طويل من مراهقي المدارس الثانوية نرنوا نحو الطرقات بعيون مترقبة.. اليوم وعلى غير العادة كنت وحدي وربما أراد القدر أن يتحفني بتفاصيل حصرية قد ابتز أصدقائي ثمن سيجارة أو كيس تبغ لأعيد عليهم مشهدًا جعل الظهيرة تنصرم في ثوانٍ .. فبينما كانت عيوني تسرح أمام الدكان وعم حمزة بجواري يهرش ذقنه في حركة بطيئة، ظهرت نفيسة في بداية الطريق فلمعت عيون عم حمزة ببريق كراهية جعلني ابتسم وأنا أرمقه خلسة وشيئًا فشيئًا كانت تعبيرات وجهه تزداد قتامة حتى ان عيونه توقفت في خانة الصمت بدون أن يطرف لها جفن في حالة تكرار لمشهد بعينه تحرك من ذاكرته فور رؤيته لها.. ونفيسة هذه بطلة قصة مأساوية اختلف الناس في من هو الضحية فيها ولا يستطيع أحد أن يصف جارتنا نفيسة بالمذنبة ولكنها كذلك .. كانت امرأة طويلة سمراء.. أربعينية.. نحيفة.. ثرثارة .. طيبة القلب يحبها الجيران.. خرجت ذات نهار قائظ عجزت فيه عن أخذ قيلولة لتشتري بن من عم حمزه علها تقتل عقارب الصيف الثقيل بفنجان قهوة.. اقتربت من دكان عم حمزة فوجدته مواربًا دلالة على أن صاحبه خارج المحل أطلقت زفرة حسرة وقفلت راجعة قبل أن تسمع صوتًا خافتًا جعلها تنتفض.. وترددت قليلاً قبل ان تعود بخطوات بطيئة لتقطع الشك باليقين... لم تتردد في ان تطرق باب منزلهم وتصقع زوجته بالنبأ الهادم ولم تمض دقائق حتى كانت الفضيحة تمزق سكون الظهيرة في المنطقة، وكاد منزل عم حمزة يتمزق كذلك النهار لولا أولاد الحلال ومن يومها وعم حمزة يرمق نفيسة بنفس النظرة التي يتكفل سمها بإبادة قبيلة كاملة.. مر الشريط في ذهن عم حمزة وأنا أرمقه بنفس النظرة الخبيثة حتى وهو يُخرج علبة التبغ ويستنشقها في عمق ظلت عيونه تحدق في المرآة في قسوة وفجأة لمحت تغيرًا طفيفًا بعد أن طرفت عيون عم حمزة كذبت خيال الابتسامة الذي ظهرت على قسماته.. مسحت المشهد بنظرة جديدة فاحصة.. نفيسة تقترب وهي تنوء بثقل صينية الطعام في طريقها لمنزل عزاء كعادة أهل السودان في جلب الطعام من منازلهم طوال أيام العزاء كعادة ما زالت تمارس في الأرياف.. وفي جزء من الثانية اتضح الموقف أمامي، كنا نجلس في رأس المثلث ونفيسة في أحد أضلاعه ويقابلها «ركس» كلب عم حمزة المسعور الذي يرعب المنطقة بالكامل وتكفي صافرة من عم حمزة ليهدأ، ولكن التعبير الراقص الذي ألقى بظلاله على وجه عم حمزة أكد أن تلك الصافرة لن تنجد نفيسة اليوم وكان ذلك في الزاوية الحادة حيث التقت نفيسة مع «ركس» وصرخت ملتاعة.. سقطت أرضًا وتناثرت الأطعمة حولها عندها نهضت بعصاي لأزجر الكلب فانطلقت صافرة الإنقاذ من عم حمزه.. ساعدت نفيسة على النهوض وقفلت عائدًا، كان عم حمزة مبتهجًا ويمسح دمعة نشوة انطلقت من عينيه ويبتلع ريقه في تلذذ .. تساءلت وأنا أجلس بجواره هل سأرى النظرة السمية مصوبة نحو نفيسة مرة أخرى.. أم؟