خمسون عاماً أو ما يناهزها ظلت قيادات لنا سياسية تسوح سوحاً في عالم السياسة السودانية وقد أنعم الله لها بالعمر المديد لتشهد وتتفاعل مع أنظمة حكم في بلادنا بالرغم من اختلافها توجهاً ومساراً في ظل ظروف متباينة على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، ولا شك بأن القادة المشار إليهم قد اكتسبوا دربة وخبرة لا مثيل لها في مجالات العمل السياسي، من ضمنها المراوغة والمداورة من ناحية والذكاء والمرونة من ناحية أخرى، حيث أن السياسة في زمان مضى قد استلزمت أن يكون السياسي قادراً على التساوق مع مجريات الأحداث وصنوفها. وفي ستينيات القرن الماضي شاعت الأفكار الاشتراكية وتسابقت الدول والمجتمعات لتبني الفكر الاشتراكي وما من دولة محيطة بالسودان إلا وهرع رموزها إلى القطب الشرقي والطرح الذي يسبغ على نظام الحكم صفة الاشتراكية والاشتراكيين، ولم يكن السودان بمنجى من تلك التوجهات، ولكن بقدرة أولئك الذين ما زالوا رقماً في سوق السياسة السودانية فإنهم استطاعوا أن يعبروا فوق تلك الفترة، لتبقى أسماؤهم وزعامتهم وتسقط الاشتراكية فكراً ومفكرين وقادة ورؤساء دول. أما سبعينيات القرن العشرين فهي التي تمثل فترة الصمود لزعامات لنا، فواجهوا الحكم الشمولي بسلوك تغلب عليه المواجهة بعنف مرة، وبمرونة تارة أخرى وببيات شتوي أو فصلي أو مرحلي في فترة من الفترات، ونتيجة لذلك تغير الحال من حال إلى حال، مع بقاء أبطال السياسة الأول في مواقعهم، ولا يشك أحدٌ في أنهم هم الذين يتحكمون في الدفة ويديرون البوصلة في اتجاه اليمين واتجاه اليسار، وما يزال الدكتور الترابي يوجه ويفكر وينظر ويقدر، ومخطئ من يظن بأنه أصبح خارج إطار الفعل السياسي، ووضوح المشهد الحالي يثبت ما ذهبنا إليه إذ لا مجال لأي مماحك أو مغالط لنفي ذلك الواقع الذي نراه جلياً للعيون والأبصار. أما السيد الصادق المهدي، فهو ما يزال اللاعب السياسي النشط، رغم الخلاف حول سياساته ومواقفه، لكنه إن صرح انشغلت بتصريحه المجالس وحللت أحاديثه الصحف واهتمت به وسائط الإعلام ووكالات الأنباء ولا نستطيع إلا أن نقول بأنه قد ساح في السياسة بالداخل وهو الآن يكمل مسيرة سياحته بالخارج ولا ندري في أي محطة سياحية سيتوقف، ذلك لأن السياحة في مجال السياسة قد ثبت بالدليل القاطع بأن عمرها أكثر من خمسين عاماً، والسيد الصادق المهدي قد تحول بالفعل إلى دليل للإثبات. والسيد محمد عثمان الميرغني وبرغم أنه لا يميل نحو التصريح، ولا يلقي محاضرة أو يعقد مؤتمراً صحفياً، فهو بصمته يتحدث وبتاريخه وتاريخ أجداده منذ تأسست الطائفة الختمية بالسودان، له ثقل وأتباع، وغافل من يظن بأن الختمية ليس لهم دور في الواقع السياسي الحالي أو ذلك الذي سيكون في المستقبل، ووجود ابن زعيم الختمية بمؤسسة الرئاسة وما ناله الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل من قسمة في تشكيلات وزارية متعاقبه، ومشاركتهم في آلية الحوار المسماة «سبعة + سبعة»، كلها مظاهر تقول بأن السيد محمد عثمان الميرغني موجود في الساحة السياسة مهما أنكر المنكرون، أو زعم البعض بأن تاريخ السودان السياسي لم يعد شيئاً مذكوراً، ذلك لأن التاريخ يمثل جزءاً من الحاضر وجزءاً من المستقبل، ولا خير في أمة قد وضعت تاريخها تحت الأقدام. والحزب الشيوعي، كان صارخاً في دعوته ومقاومته للقوى التقليدية والتوجهات الإسلامية على وجه خاص، غير أن الصدمات التي تلقاها الشيوعيون، جعلتهم يفكرون بوجه آخر تغيب فيه مظاهر العداوة للدين وشعارات المادية والإلحاد، فكان هذا الجديد هو الذي أفسح مجالاً لمن يتبنون الشيوعية لتصبح مجالاً فيه بعض الذي يشير إلى روح لم تمت، بالرغم من موت الشيوعية في أصولها وأفكارها على نطاق هذا العالم الفسيح الأرجاء. وظلت الشيوعية برغم ذلك محطة بائرة للسياحة، إلا من سواحٍ على نمط غريب.