اختطاف الطائرة العراقية «ميج 21» كان منير روفا يتكلم بصدق، مما أكد لعاميت ورجاله عدم معرفتهم إزاء النظم العمول بها في الطيران العراقي، وأحس أبو داود بما يشبه اليأس أمام تلك المشكلة المعقدة، فقد فكر ضابط الموساد لحل هذه المشكلة وبالسرعة التي يريدونها امتلاك الميج 21 كانوا يرون ان يستخدم روفا طريقاً آخر لملء خزان الوقود عن طريق الرشوة أو عن طريق التحايل، لملء خزان وقوده. وهي الوسيلة الوحيدة التي راودت ضباط الموساد عرضها على منير روفا.. وكانت تنتاب منير من حين إلى آخر وخزة ضمير.. لماذا إذن يخون وطنه العراق.. وماذا فعل به قادته كي يخونهم؟ لقد قبلوه بكلية الطيران وهو الشاب المعدم ذو الأسرة الفقيرة وأنفقت عيه الدولة أموالاً طائلة لتعليمه وبعثوا به إلى الخارج في بعثات تعليمية وتدريبية ليترقي فنياً كطيار حربي، وعاملوه بكرم شديد وحب كبير.. دون أن يفرقوا بينه وبين زملائه المسلمين في المعاملة.. بل كانوا أكثر تساهلاً معه حتى لا يدعي حاقد وضيع باضطهاد المسيحيين في الجيش العراقي. لقد استعرض هذا الشريط المحزن في عقله الباطن وهو يبحث عن إجابة مقنعة.. تريحه وتريح ضميره الذي نثرت عليه ليزا عناب ثمارها إنه انقاد وراء ليزا بلا وعي ووافق مضطراً على فكرة الهرب بعد ان تكشف له أن الذين يحاصرونه بأسئلتهم وحواراتهم هم رجال المخابرات الإسرائيلية، وما عاد الهرب يجدي ولا الاعتذار يقبل.. فإذا حاول أن يتبرم منهم فإنه ميت بلا أدنى شك، فإن المليون دولار كان عزاؤه الوحيد وسلواه في إسرائيل التي ربما تقلب عليه ظهر المجن.. وأن أياماً نحسات في انتظاره.. وأن شهد ليزا.. لا يدوم طويلاً.. فوافق مضطراً على فكرة الهرب بطائرته دون ان يتحسب العواقب. لأنه اذا رفض.. كانت لعنة التهديد والوعيد واضحة على لسان أبي موسى.. لقد أدرك أخيراً أنه دخل المصيدة وتوغل في شباكها ولن يخرج منها سالماً.. وأحس أن ليزا تخدعه وتعمل لمصالحهم؟.. لو كانت هذه هي الحقيقة المتوارية، فان هنالك حتماً شرائط مسجلة بصوته وهو يسب العراق وقادته وأن هناك صوراً له وليزا في أوضاع فاضحة هنالك ايضاً الأفلام التي تظهر سقوطه في براثن شبكة العنكبوت الإسرائيلية. قد دارت به الظنون وحوته الهواجس وراودته البلية مجندلاً لا حول له ولا قوة أكلته الظنون ودفعته نحو ليزا قائلاً في صمت مميت.. ربما كانت ليزا معهم.. يا للمصيبة.. ان الأمر يبدو كذلك.. وقبل أن تقوم ليزا من جواره يطرقون الباب ويدخلون عليه.. ومن أين جاءوا؟ وهو لم يسمع من خطواتهم حتى حفيف النمل.. يبدو أنهم كانوا خلف الباب.. لا.. بل داخل الردهة..ربما كانوا في مكان ما داخل الغرفة.. إذن ليزا كانت تعرف.. وتتلون بمشاعر زائفة.. تذكر بأنه كان ثملاً برحيق لماها إنه عمى العشق الذي أعمى بصره وبصيرته.. ودفعه ان يمشي وراء نزواته وطيشه وراء المتعة التي قادته حتى أبواب جهنم.. الجحيم الذي لا حياة بعده.. نعم الجحيم.. فها هو يطير إلى إسرائيل كالمبنج قبيل الاستفاقة يحمل جواز سفر إسرائيلي باسم عزرا موران بارزكاي وإلى جواره ليزا الغارق في حبها.. يا له من حب قاتل لشفاه ظمأى وجسد تملكه سم العشق السرمدي الذي تسلل داخل أحشائه. كان مائير عاميت رئيس جهاز الموساد قد أسرع بالعودة إلى تل أبيب ليزف البشرى لرئيس الوزراء.. تاركاً روفا يحيط به رهط من رجاله وهم عتاولة الموساد.. تكالبوا عليه وحاصروه ولم يتركوا له فرصة كافية ليختلي فيها بنفسه ليفكر أو يتراجع، بل أغرقوه بالإغراءات وحلو الوعود أحياناً بلطف شديد وبالتهديد بالأزمات التي سيواجهها في العراق إن لم يهرب.. كان ضمن تخطيط الموساد ثلاثة أهداف قبل ان يقوم منير روفا من الهرب بالطائرة العراقية التي يقودها وهي: 1/ أن يسافر منير روفا إلى اسرائيل. 2/ أن يقدم له الموساد استقبالاً خرافياً.. حتى يطمئن بان كل الوعود التي أوعد بها حقيقة.. وأنهم سيدفعون له المليون دولار بلا أدنى شك. 2/ يستعرضون له قوة إسرائيل الجوية.. اذا ما حدث أي اعتراض طائرته. 3/ ليتعرف على المطار الذي ينزل فيه وليرى كل الاستعدادات الخاصة باستقبال الطائرة بما فيها المدرج والمربط الذي يقف فيه.. فكان استقباله في مطار «اللد» وضعه مدهشاً.. إذ استقبل بحفاوة بالغة أذهلت عقله وعومل، منذ نزوله سلم الطائرة، كشخصية هامة للغاية. وجذبته فاتنته الماهرة ليزا برانت نحو الليموزين السوداء ذات الستائر المخملية وهي تخترق شوارع تل أبيب قبل مطلع الفجر بقليل. كانت روعة الاستقبال حركت دقات قلبه المتسارعة لتزيد من اضطرابه بالرغم من التصاق ليزا به. وصوت لتسجيل جميل ينبعث من مسجل العربة يردد «الورد جميل» لأم كلثوم.. أزاح الستار بيده وهو يتأمل اللافتات وهي مكتوبة باللغة العبرية، والأضواء والشوارع شبه الخالية إلا من رجال الأمن ودورياتهم.. وثمة إحساس مؤلم يعتصره ويذهب بأعصابه.. وهو يستعرض شريط الأحداث التي نقلته بصورة خرافية من العراق«بغداد» إلى مريض يتعالج في فرنسا ثم يتحول إلى شخصية أخرى «أوراق ثبوتية جديدة.. جنسية إسرائيلية وجواز إسرائيلي ثم يطير من فرنسا إلى مطار اللد وعلى متن طائرة العال الإسرائيلية.. تغيرت الأحوال وتلاحقت الأحداث.. وأمام فيلا لم يخل شبر من رجال الأمن وسور حديدي مهيب وأشجار كثيفة من البونسيان وأشجار الفرقد.. توقفت السيارة ثم انفتح الباب على مصراعيه ثم واصلت سيرها إلى الداخل.. فظهر بناء داكن اللون يتكون من طابقين على سلمه الرخامي الأبيض وقف أربعة رجال، تبين بينهما أبو موسى وأبو داؤد.. فعانقاه بحرارة مهنئيه بسلامة الوصول.. وحاولا قدر جهدهما إخراجه من ظلمة هواجسه وخوفه وقد تأكد لهما أنهما نجحا. كان يجاهد داخل نفسه ليتحدث لليزا بصراحة.. ويسألها لماذا خدعته؟ إلا ان التساؤلات كانت تضيع قبلما تتحرك على لسانه.. عيناه كانت تفضحان حيرته وخوفه.. إلا ان ليزا كانت تدرك عمق الدهشة والحيرة التي يمر بها.. إلا انها كانت تتجاهله.. لأنها نجحت في دورها وأحكمت خطتها وجاءت به ليس إلى فرنسا كما تمنت، بل إلى إسرائيل حيث لم يعد بمقدوره وتحت أي ظرف ان يجد مخرجاً من هذه المصيدة.. وها هي مهمتها تشارف نهايتها في إسرائيل.. ودورها أصبح في تهدئته نفسياً وإخراجه من ثورة الصراع المشتعلة في أعماقه.. وهو ايضاً بدا مستسلماً لمصيره، ولا أنيس ولا مدافع ولا جليس.. فأصبح في قارعة الطريق فقط، أصبح محتمياً بدفء هذه الأفعى وحبها المزيف.. وساعد ظلام الليل الساكن إلا همسات ليزا الملتهبة وزادت من نشاطها وملامستها له على تسكين روعه.. فعانقها هرباً من صراعاته النفسية وأوجاعه.. كما عاودته رغبة الثبات والجرأة.. فطفق يحسو رحيق القبل.. عله يطفئ براكين فكره بلظى جسدها الأبيض وما بين ضربات المتعة الطاحنة ودبيب الخدر بأوصاله، تناسى منير روفا موقعه وواقعه.. وغاص يستمرئ اللذات لعله يتوه في قعر هذه الملذات.. وعند الظهيرة زاره أبو داود واثنان آخران من ضباط الموساد واصطحباه إلى شارع شاؤول حيث يقع المبنى الرئيس الجديد لجهاز الموساد.