اليوم يرتقي الحجاج أبرك مرتقى عندما يلتزمون جبل عرفات جبل الرحمة أحد الأركان التي لا يتم الحج بدونه. وغداً ينحرون ضحاياهم تيمناً بما فعله أبونا نبي الله إبراهيم عليه السلام وبما سنه رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. خواطر عديدة تمر على ذهني وأنا أتأمل دلالات ذلك العمل غير المسبوق. ففي كثير من الحضارات نجد أنهم كانوا يقدمون خيرة شبابهم ويذبحونهم قرباناً لآلهتهم. «كانت هناك عادة تقام سنوياً عند المصريين القدماء حيث يقدمون لنهر النيل كل سنة أضحية بشرية لتجنب غضبته وفيضاناته وتكون هذه الأضحية أنثى. كما كان شعب الإزتيك يقدم قرباناً بشرياً كل عام في شهر ديسمبر في عيد الخصب السنوي حيث يقومون باختيار أجمل شاب أو فتاة ويلبسونها زياً محدداً ويضعون مجموعة من الريش الملون على شعرها ثمّ يحملون القربان في موكب حافل إلى المعبد وهناك يحضرون القربان فيقومون بتلاوة بعض الصلوات ثم يغرس خنجر في قلب القربان ويقطع الرأس ثم يرش الدم على التمثال الذي يمثل إله الخير. أما شعب المايا فإنهم كانوا يقدمون سنوياً وفي موسم محدد تضحية إلى الآلهة من الأسرى من القبائل المجاورة أو الأطفال. ويقدم شعب الفينيقيين قرابين الأطفال كي تحقق لهم الآلهة مطالبهم، ويكون ذبح القربان أمام صنم برنزي، كما أن التضحية في جزيرة سردينيا كانت تتم أمام تمثال برونزي لكرونوس ممدود الذراعين على مجمرة ملتهبة تستخدم كي ينزلق فوقها الطفل ويسقط. كانت هناك عادات قديمة عند الصينيين من أصحاب الديانة البوذية حيث يتم نحر فتاة عذراء في رأس السنة ويقوم بهذا النحر الكهنة ويتم شرب دم الضحية وتوزيع لحمها على الفقراء». بالنسبة لسيدنا إبراهيم يبدو أن القربان كان هاجساً يراه في النوم. فهو يرى الكفار من حوله يقدمون قرابين بشرية في احتفالات مدينة تدمر بسوريا لآلهتهم الصماء البكماء التي لا تضر ولا تنفع، وقد نهاهم عن عبادتها ولاقى في ذلك عذاباً كبيراً. فماذا يقدم هو للإله الواحد الأحد الفرد الصمد؟ ولذلك جاء خطابه لابنه بفعل المضارع المستمر المتكرر فقال: «يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ». إني أرى تعني أن الرؤية متكررة إذ لم يقل: إني رأيت كما قال سيدنا يوسف عليه السلام: «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين» يوسف: «4». رؤية سينا يوسف رؤية واحدة. أما رؤية سيدنا إبراهيم فهي رؤية متكررة «إني أرى في المنام». وسيدنا إبراهيم بطبيعته وفطرته السليمة لا يأخد الأمور على علاتها. فرحلة البحث عن الله عنده مرت بعدة مراحل: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». ونأتي لموضوع الذبح. الله سبحانه وتعالى وبسابق علمه يهيئ رسله وأنبياءه لحمل الرسالة وهو يعرف تماماً أين يضع رسالته: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ». وسيدنا إبراهيم عليه السلام وبطبيعته المتسائلة وجد نفسه مهيأ لمهمة تأتي فيما بعد: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». رأى بعينيه كيف يحيي الله الموتى. ولذلك لم يتردد في أن يأخد ابنه ليذبحه. وهنا جاءت المعجزة الإلهية العظيمة معجزة الفداء بالكبش. وقد كان هذا إعلاناً من الله سبحانه وتعالى لإبراهيم ولجميع البشرية أن من أراد أن يتقرب إلى الله فلا يتقرب إليه بذبح بشر، بل بذبح حيوان من أنعام الله. وهذه هي الحكمة التي أوقفت ممارسة كانت مستمرة عبر العصور. إبراهيم أبو الأنبياء من خلاله أرسل الله لنا تلك الرسالة التي تنهي عن ذبح البشر كقرابين، وتقدم بدلاً عن ذلك من أنعام الله ما يقبله الله ولا يرضى أن يهل به لغيره. وربما كان في هذا الاجتهاد شيء من الصواب جاء به تعبير «إني أرى». والله أعلم. نسأل الله أن يفدي رقابنا ورقاب المسلمين مما نشهده من قتل ودمار، ونسأله أن ينعم على بلادنا وسائر بلاد المسلمين بالسلام والطمأنينة، وأن يطعمنا من جوع وأن يأمننا من خوف. وكل عام أنتم بخير عميم من أرحم راحمين.