قرية شبير البنات هي إحدى القرى المتناثرة على الريف السوداني الفسيح وأغلب الظن أنكم لم تسمعوا بها أو حتى لو سمعتهم بها فهي لم تعلق بذاكرتكم لأنها قرية تسكن خارج ذاكرة الوطن ولم تدخل التاريخ أبداً والمرة الوحيدة التي سُمح لها أن تتوارى خلف بوابة التاريخ كانت عندما مر بها ركب رئيس الوزراء وهو في طريقه الى مدينة كوستي عندما كان في جولة تفقدية لمعقل أنصاره هنالك. «زمان». انت قرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من عند الله كل سنة في شكل أمطار تسيل لها الأودية فتبعث الحياة في حقول الذرة والسمسم وترتفع هامات الرجال فوق الأرض الخصبة وتمتد سواعدهم الى قلبها فتزرع فيه بأظفارها قوت السنوات المقبلة. كان رزقها يأتيها.... وكان الخير يأتيها أيضاً الى أن أتاها ابنها الخير الذي كان مغترباً لعشر سنوات مضت. مع غروب الشمس وعودة الأبقار الى القرية وارتفاع الغبار والدخان وصياح الأطفال وهم يترقبون حليب المساء عاد الخير في عربة تاكسي صفراء وعادت حقائبه على عربة بوكس سائقه مغرم بأغنية «دخلوها وصقيرا حام» ولذلك لم يتوقف شريط التسجيل عن بث الأغنية في فضاء القرية. عودة الخير هذه كانت متوقعة منذ سنوات إلا أنه كان يؤجل عودته كل مرة بحجة ظروف العمل ويبدو أن تلك الظروف قد سمحت له أخيراً بالرجوع الى قريته فعاد في عربة تاكسي صفراء وبوكس تنبعث منه أغنية «دخلوها». هنا لابد لي من أن أختصر لحظات الاستقبال والترحاب والفرحة التي غمرت جميع أهل القرية وعلى رأسهم عائلة الخير وأفاتحكم مباشرة في موضوع زواج الخير . فالخير لابد أن يتزوج ولابد أن يوافق الجميع ولابد أن تتم مراسم الزواج كما تتم عادة في مثل تلك الظروف ولكن زواج الخير كان شيئاً جديداً لم تألفه تلك القرية الآمنة المطمئنة. فالخير قد قدم مهراً لبنت عمه يحمل من الأصفار ماجعل تلاميذ المدرسة الابتدائية في حركة دائمة وهم يشرحون للرجال والنساء إن المليون يحتوي على ستة أصفار على يمين الواحد وبما أن ما قدمه الخير هو عدة ملايين فإن جميع الرجال يتساءلون: _ ياخوي المليون حقكم دا دحين بملا جرابي دا ويستفوا تب؟ _ أيوه...عليك أمان الله ما يدي نفس.. _ الكتلة! وهنالك شيخ عجوز يستمع لهذا الحوار يغمغم بصوت منخفض: _ ونان لشنو؟ عليّ الطلاق نحنا زمان مرة التلاتين ريال الحمار ما يشيلها. وهسع هو الخير حبوبته الماكنة دي عرسوها بكم؟ بوبار ناساً طرش. وتتقدم نحوه إحدى النسوة: _ هوى ياجدي عبد المجيد .. إنتوا زمانكم ما فات.. دحين دا شغل مغتربين وناس بندر ويلتفت الشيخ قائلاً: _ ماعرفتك ... انتي منو؟ وترد المرأة: _ أجي يا يابا أنا ماني أمونة مرة النضيف ود حسن وتمر لحظة فرح على الشيخ وهو يقول: _ هي حبابك .. والله ما عرفتك ... ما خلاص يا بتي العيون بقى شوفا طشاش طشاش .. وعلى قولك دا زمن تاني. ولكن الخير لا يتوقف عند ذلك المهر ذي الملايين العشرين، فقد أتبع ذلك المهر بأربع وعشرين قطعة من كل نوع من اللبس وكذلك مثله من الأحذية والعطور التي تثير الحساسية في كثير من الأنوف. والكريمات الما خمج. وعندما انطلق هدير المولد الكهربائي أو الجننيتر كما يسمونه وانبعثت الأنوار في كل ركن من أركان المنزل استطاع الأطفال أن يلعبوا حتى الصباح و ذهبوا لمدرستهم بعيون مغمضة وأفواه تتثاءب. وفى الليلة الكبيرة وصل القرية السيد ابو الكرم متعهد الحفلات ومعه خيامه وسرداقه ومرطباته والذين يقومون بخدمة الضيوف وهم يلبسون الزي الخاص بذلك والذي يميزه ذلك الحزام الأحمر العريض الذي يلف حول الوسط. ونصبت المنصة التي انبعث منها صوت مذيع الحفل: سيداتي آنساتي سادتي. نرحب بكم في حفلنا هذا حفل زواج الأستاذ الكبير ابنكم المخلص الخير ونحب نقول ليكم : وين وين تلقوا زي دا. وهنا انطلق صوت فنانة مشروخة الصوت تغني: وين وين تلقوا ز يدا الخير اغترب والله أداه وتنطلق الصواريخ النارية مختلطة بالزغاريد مثيرة الفزع في طيور السمبر التي آوت الى أعشاشها فتطير مضطربة متخبطة في ظلام القرية بأجنحتها بعيداً عن الأضواء. وجاء مصور الحفل ومعه كاميرا الفيديو وقد استجلب هو الآخر مولداً كهربائياً مخصوصاً لهذه المناسبة حتى لا يحدث شيء لم يكن في الحسبان فيوقف التصوير. والحساب كله تعهد الخير بدفعه. وتأكد الخير أن كمية السجاير التى أحضرها كانت كافية فقد وضع في يد كل شاب وكهل وطفل وغيره علبة سجاير لزوم التفريق ونسيان الهموم وسط الأصوات العالية المنبعثة من الساوند سيستم الضخم الذي جعل ناس القرية لا يسمعون بعضهم بعضًا. والقرية الآمنة المطمئنة لم تعد بعد ذلك اليوم آمنة مطمئنة. فأولاد حمد شدوا رحالهم للمدينة وانتشروا في أسواقها الشعبية يبيعون السجاير وأموس الناسية. وأولاد النعيم باعوا محصولهم وسلموا حصيلتهم لشخص قابلوه في أم بدة وقال لهم انه سيجهز لهم التأشيرة وأوراق السفر. يقول أكبرهم: والله الراجل دا ماعارفين حكايتو شنو.. كل يوم نمشي ما نلقاهو. وأولاد حاج إبراهيم لا أحد يعرف مكانهم ولكن أحدهم أرسل وصية مع الناير ود حسب الله يقول لخطيبته إنه سيعود مثلما عاد الخير وسيحضر لهم تلفزيون ورسيفر. ولأول مرة تدخل سيارات الإغاثة قرية شبير البنات فالمحصول لم ينتج أي شيء تلك السنة لأن الأرض لم تفلح ولأول مرة يتذوق الأطفال لبن النيدو والنساء يمسحن شعرهن وأجسادهن بزيت فول الصويا المستورد من الصين. بينما عاد الخير إلى عمله وهو يبحث عن مجموعة من الناس يدخل معهم في جمعية أو ختة ويطالب بأن يكون أول واحد يصرف الختة .