- إذا كان الحديثُ عن «مشروعية» سجن المُعسِر حتى يُسدِّدَ ما عليه من دَين أو يَبْقَى سجيناً مدى الحياة، مع ما يتضمنُهُ مثل هذا الأمر من تَناقُضٍ هُو أنكَى كثيراً مما حاول شاعرٌ قديمٌ التعبير عنهُ بقولِهِ : (ألقاهُ في اليمِّ مكتُوفاً وقال له *** إياك..إياك أن تبتلَّ بالماءِ).. - أقُولُ: إذا كان مثل هذا الحديث قد أُثيرَ في أكثر من منبر، ومن أكثر من خبير وفقيه اقتصادي وشرعي وقانوني، وخلُصَ فيه رأيُ الجميع إلى أنَّ سجن المُعسِرِ ظُلمٌ لا يُقرُّهُ شرعٌ ولا دينٌ ولا خُلُق، إذا كان الأمرُ كذلك بشأنِ عامَّة الناس، فإنهُ حين يكُونُ المُعسِرُ امرأةٌ، وحين تكُونُ هذه المرأة أماً لرضيعٍ صحبها في السجن، وحين تكُونُ أُسرة هذه المعسرة السجينة في مبلغٍ زهيدٍ إذا قُورِنَ ب «نثريات الضيافة» لبعض موظفي الدولة أسرةً فقيرةً متعفِّفة، ممتدة تضم والدينِ كبيرين وأخواناً قُصَّر، وتعتمِدُ على راتبٍ زهيدٍ كانت تتقاضاهُ ابنتها المعسرة «قبل أن يتم فصلُها تعسُّفياً، بدعوَى الغياب، أيام سجنها»، إضافة إلى «معاش» والدها الشيخ الذي أفنَى زهرة شبابه في خدمة الدولة، ثُمَّ وقع مصدُوماً حين أخذوا ابنتهُ إلى السجن : «يا ولدي أنا عمري سبعين سنة، لحدي الليلة ما وقفت قدام محكمة ولا واحد من بيتي بيعرف درب المحاكم ولا السجون!!».. حين يكُونُ الأمرُ كذلك، فإنَّ الأمر يبلُغ حدَّ الجريمة.. ولكننا كُنَّا قد نوَّهنا في هذه المساحة ذات يوم إلى أن مشكلة الأخت هبة صديق قد حُلَّت، وذلك بعون الله الذي سخَّر بعض الأخيار من عباده، فأتَمُّوا ما «صدَّق» به ديوان الزكاة الاتحادي، وما تكرمت «بالتصديق» به « لجنة الغارمين والمُعسِرين» بالهيئة القضائية.. ولكن المفاجأة كانت.. - حين قالت الأخت هبة إن المتبقي عليها من الدين ثلاثة آلاف جنيه، قالت ذلك وهي واثقة من أن ما «صدَّقت» به الجهتان المذكورتان أعلاه أصبح «مضموناً»، ولهذا، حين استنفرنا أهل النجدة عبر هذا العمود، واتصل العشرات من أخيار هذه الأمة بهاتف والدها الذي نشرناه، اكتفى بأول متصل، إذ تكفل بالثلاثة آلاف من الجنيهات المطلوبة، ثم شكر الآخرين الذين اتصلوا به لاحقاً، قائلاً إن الله قد «فرجها» ، ولو كان يعلمُ ما سوف يجنيه من «تصديقي» ديوان الزكاة و لجنة الغارمين ، لما ردَّهم ، ولاستكمل المتبقي على ابنته حتى يكفيها شر الملاحقة، خصوصاً وأنها كانت قد أُخرجت من السجن بعد تسديد جزءٍ من الدين وتعهُّد بتسديد الباقي اعتماداً على التصديقين أعلاه.. - و كان الأخ الكريم / محمد بابكر إبراهيم، مدير المصارف بديوان الزكاة الاتحادي، قد خاطب محكمة الخرطوم الجزئية بتاريخ 10/3/2011م ، مؤكداً أنه: «بالإشارة للموضوع أعلاه، نفيدكم بأنه تم التصديق للمذكورة أعلاه بمبلغ 6000 جنيه «فقط ستة آلاف جنيه» مساهمة في الغُرم، وسوف يُستخرج المبلغ بشيك باسم المحكمة في وقتٍ لاحق إن شاء الله».. و هو خطابٌ طيِّبٌ، جاء إنفاذاً لخطاب الأخ نائب الأمين العام للمصارف بديوان الزكاة، السابق، الدكتور إبراهيم حسن، والذي اطلع على قضية الأخت هبة وتعاطف معها بشدة، فكان نص خطابه بتاريخ 22/2/2011م : «الأخ / مدير إدارة تخطيط المصارف: يُعطى «أي طلب الأخت الغارمة» أولوية عند بداية الصرف في مارس».. ولكن الأخت هبة، ووالدها الشيخ، راحا يطاردان ديوان الزكاة حتى اليوم، وأشباح العودة إلى السجن تطاردهما، وقد مضت تسعة أشهر على التصديق، بلا طائل، وبما أن المتهم في القضية ليس هو ديوان الزكاة، فإن المحكمة لن تسجن ديوان الزكاة الذي تعهد لها بخطاب بتسديد المبلغ وبشيك باسم المحكمة، قبل تسعة أشهر، وقد نفد صبر المحكمة، ولجنة الغارمين والمعسرين قيدت تبرعها «البالغ خمسة آلاف جنيه» بأن يسدد كل باقي المبلغ، ولا يتبقى إلا خمسة آلاف جنيه، لتقوم بعدها بدفعها.. أي أن مصير هذه الأسرة متوقف الآن على مدى صدقية ديوان الزكاة. وما تعودناهُ خلال الأشهر الأخيرات من ديوان الزكاة يقول لنا إن الديوان لن يخذل هذه الأسرة المتعففة. هامش: برغم أهمية ومصيرية هذه الحالة التي نتعرض لها ، إلا أن مبتغانا يتجاوزُ الحلول الفردية لأمثال هذه القضايا التي أصبحت همَّاً اجتماعياً يستغرق الكثير من الأسر، وبالتالي يتهدد النسيج الاجتماعي والقيمي، والأمر يستوجبُ حلاَّ على مستوى المؤسسة التشريعية، والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية .