هل سيمُدّ القائمون على هذا المشروع أعناقهم إن قرأوا هذا العنوان ظنّاً أنّ المقال سيقول شيئاً ما جيّداً عن مشروعهم؟ إن ظنّوا ذلك فإنّ بعض الظن إثم، ولكنّي أرجح أنهم لن يظنوا ذلك، والراجح أنهم متأكدون أنّه ما من أحد يمكن أن يذكُر مشروعهم هذا بخير، فلعلّهم إن قرأوا العنوان ضاقوا ذرعاً مِن أنْ يكون أحدٌ ما لاحظهم وانتبه لفعلهم الشنيع، وقالوا: من ذا الذي يريد أن ينبش عنّا وعمّا نفعل؟! القصد.. إنّ «مشروع الكسب الشريف» هو عنوان مكتوب على الدرداقات التي يعمل عليها بعض الشباب والصبية في السوق المركزي بالخرطوم، يقودونها مطاردين زبائن السوق بإلحاح علّهم يظفرون منهم بزبون، ومن أجل ما تفعله بهم الشركة صاحبة المشروع؛ فإنّ هؤلاء الصبية يبدون دائماً في سباق مع الزمن، وفي محاولات محمومة لإنجاز أكبر ما يمكن من عمل في أقصر ما يمكن من زمن. إنّ هؤلاء الصبية يدفعون للشركة المالكة للدرداقات «وهي شركة تابعة للمحلية كما يقولون» ما قيمته عشرة جنيهات يوميّاً نظير إيجار الدرداقة. وبالنظر إلى أنّ ما يحصُل عليه سائق الدرداقة نظير المهمة الواحدة لا يتجاوز عادة الجنيهين، فسيظهرُ لك أن العامل لا يجمع قيمة الإيجار إلّا مِن خمسة زبائن، ثم يبدأ من بعد ذلك في جني الربح لنفسه. ومع كثرة الدرداقات العاملة في السوق فإني أتساءل هل يكسب هؤلاء الصبية في كل يوم قيمة الإيجار ويزيد؟ كم منهم سبق أن طارد الزبائن سائر يومه ثم ذهب حصاد يومه كاملاً إلى السادة في الشركة لأنه لم يكسب سوى الجنيهات العشرة المطلوبة؟ بل ولعلهم يضطرون أحيانا إلى إكمال المطلوب من جيوبهم كما قال لي أحدهم ذات يوم. إنّ عمل هذه الشركة كان سيكون كسباً شريفاً لها لو أنّها كانت تنافسُ في سوق مفتوح، تؤجر لِمَن يريد وتترك من لا يريد إيجار درداقاتها لحاله. ولكنّ ما يحدث هو أنّ المحلية وشركتها تحتكران السوق، ويُمنع كلّ من يملك درداقة من العمل بها، بل وتصادر درداقته أيضاً، فإمّا أن تعمل على درداقات المحلية وتدفع إيجارها أو لا تعمل البتّة. فإذن.. لو أنّ قيمة ذلك الإيجار كانت جنيهين فحسب لكانت حراماً عليهم لِمَا يمارسونه من الاحتكار. إنّ كسب هؤلاء الصبية والشباب الذين يجرون خلف تلك الدرداقات طوال النهار وقِطعاً من الليل هو كسب شريف بلا شك، أما كسب تلك الشركة ومِنْ ورائها المحلية فهو كسب خبيث ظالم، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحتكر إلا خاطئ. ويقول: المحتكر ملعون. فلا عجب إذن أنْ تعاني محلياتنا من الخراب والإفلاس مع كلّ ما تقتطعه من أقوات الناس بالحق والباطل، إن كانت ملعونةً مطرودةً من رحمة الله! إنه لعجز فادح واتكالية عجيبة من المحليات أن تعمدَ إلى أقوات هؤلاء الضعاف ومدخولاتهم القليلة لتقطع منه قدراً فاحشاً لتدعم من ذلك ميزانياتها. وهبْ أنّ هؤلاء الصبية يجنون ما قيمته ثلاثون جنيهاً في اليوم «وهو ما يشبه أن يكون مُحالاً» فمن ذا الذي تُفرض عليه ضريبةٌ على الدخل تزيد على الثلاثة وثلاثين في المئة؟ هل يفرض ذلك على كبار التجار ورعاة المليارات من الأغنياء حتى يفرض على هؤلاء؟؟ إنّ تحصيل إيجار هذه الدرداقات بهذه الطريقة الإجبارية لا يمكن أن يسمى إيجاراً، بل هو ضريبة تحصّل على عمل هؤلاء، ولكن لمّا لمْ يتمكنوا من فرضها بقانون الضريبة احتالوا على ذلك بهذه الحيلة القبيحة. لقد تحدثتُ من قبل في أمر صبية الدرداقات. وليس ممّا نحلم به أن تقوم المحلية بتصحيح الوضع من تلقاء نفسها، ولكنّي أتوجه بالنداء إلى الأخت وزيرة الشؤون الاجتماعية بالولاية التي استلمت المنصب أخيراً، الأخت الفاضلة شقيقة الشهيدين أنس وأمين الدولّب، الأخت مشاعر الدولّب، وأناشدها أن تنظر بعين الرحمة لهؤلاء، وإن لم يصلها صوت تظلُّمهم لأنهم يغمغمون به ولا يعرفون طريقاً لإيصاله إلى الأعلى إلّا الطريق السالك إلى السماء. نعم، نناشدها أن تمنع المحليات من أن تتكئ بأثقالها الفادحة على أكتافهم الضعيفة المثقلة بضيق العيش وأعباء الحياة، وأقمن بمشاعر أن تفعل أو على الأقل تحاول.