طيلة الفترة التي وجدت نفسي أعيش فيها على كوكب الأرض بصفة عامة وفي السودان بصفة خاصة لم أمارس السياسة العملية Practical Politics كأن أعمل تحت منظومة حزبية على نحوٍ ما. ولكني كنت أسجل رأيي في المسائل القومية متى كان ذلك مطلوباً بعد دراسة وافية. فمثلاً في بداية التسعينيات من القرن الماضي عندما كنت مغترباً في المملكة العربية السعودية أذكر أن مؤتمر البجا قد نشر بياناً على جريدة الخرطوم التي كانت تصدر في المهجر يبشرنا فيه أن قواته قد فجّرت ثلاثة كباري في شرق السودان فكتبت مقالاً بعنوان «وإذا الكباري نُسفت» إستنكرت فيه ذلك العمل وقلتإن تلك الكباري قد شيدت في أكثر المناطق تخلفاً بأموال الشعب السوداني وطالبت مؤتمر البجا أن يبرهن لنا أن تفجير تلك الكباري سيؤدي حتماً إلى سقوط النظام في الخرطوم.. ويومها ثارت ثائرة أعضاء المؤتمر ومقاتليه وشتموني شتائم مقزعة وانبرى لي من أعضاء المؤتمر أمثال السادة عثمان أونور والقبطان وطه إبراهيم المحامي وسعد البركالي «اسم استعاره أحدهم وتخفّى خلفه ليشتمني» وهو لا ينتمي لمؤتمر البجة، وغيرهم كثر.. وخلاصة أقوالهم إنني قد بعت نفسي لحزب الجبهة وختمت تاريخي النضالي أسوأ خاتمة «أنا لا أعرف لنفسي تاريخاً نضالياً يُذكر.. لذا لزم التنويه» ولم يتصد لتلك الهجمات الشرسة والضرب تحت الحزام إلا العالم الجليل حسن أبوعائشة حامد ودافع عني بالرغم من أني لم أكن أعرفه فله مني التجلة والتقدير.. ومرت الأيام وعاد مؤتمر البجا مصالحاً ووضع يده مع حزب الحكومة وتبوأ أفراده أعلى المناصب ولم أقل إنهم قد باعوا أنفسهم لحزب الجبهة أو ختموا تاريخهم النضالي أسوأ خاتمة. وفي عام 1958م وأنا طالب بمدرسة خورطقت الثانوية وكنا في رحلة لحدائق البان جديد بالأبيض والتقيت بالضابط الجنوبي سانتينيو الذي تمرد مع رفاقه بتوريت عام 1955م وحكم عليه بالسجن ثمانية أعوام وفي نقاش لي معه قال لي: «نحن وأنتم مثل الماء والزيت .. لن نختلط أبداً» وعندما هجم الطلاب الجنوبيون على معرض جمعية الفنون الجميلة بنادي طلاب جامعة الخرطوم عام 1963م واقتلعوا لوحة كان قد رسمها الطالب آنذاك- علي مصطفى بلال وأحرقوها في تجمع لهم بالميدان الشرقي لأنهم حسب زعمهم قد وجدوا فيها إساءة وتحقيراً. وفي أغسطس من عام 1970م وكنت قد اشتركت في مؤتمر الشباب للبيئة الذي عُقد في جامعة ماكماستر بهاملتون أونتاريو «وقد كنت شاباً لا يشق له غبار في ذلك الوقت» وقفت على نشاطات الطلاب الجنوبيين بأمريكا الشمالية وكانوا يوزعون ملصقات رسموا عليها طائرات سوفيتية وكتبوا عليها أن المسلمين العرب وحلفاءهم السوفيت يشنون حملة إبادة على الجنوبيين. وعدت وقد حملت معي نسخاً من تلك الملصقات لأوضح حجم الدعاية ضد السودان التي تُشن في أمريكا الشمالية. وفي عام 1986م عندما نشرت مقالاً على جريدة الخرطوم بعنوان «أيهما أسهل وحدة اندماجية مع يوغندا أم وحدة اندماجية مع جنوب السودان» وعام 1992/1993م إبان محادثات أبوجا الأولى وأبوجا الثانية وكتبت مقالاتي في جريدة الخرطوم «يا هو دي الأولى ويا هو دي الثانية» وبتاريخ 6/4/2006م عندما كتبت مقالاً في جريدة «الوطن» بعنوان «الخروج من عنق الزجاجة» وفي كل تلك المقالات كنت أقول إن ما لمحته في أعين الزملاء الجنوبيين وأحسسته في صدورهم من غل قد أقنعني بما لا يتطرق إليه الشك أنه سيأتي اليوم الذي سينفصلون فيه وقلت إذا كان الأمر كذلك فإنه خير لنا مليون مرة أن نلبي رغبتهم لينفصلوا بأقل تكلفة وعلى شروطنا نحن من أن يُفرض علينا الانفصال بأعلى تكلفة وعلى شروطهم هم. ولم تكن هناك أبيي ولا جنوب كردفان ولا النيل الأزرق.. وفي كل تلك المراحل كنت أمارس حقي في التعبير عن رأيي في السياسة القومية دون الارتباط بجهةٍ ما وفي حدود ما أعلم. ولكني كنت كل مرة أتعرض لشتائم وسباب وتحقير من جميع الجهات. وعندما أصدرت المحكمة الجنائية قرارها بتوقيف رئيس الدولة كتبت عدة مقالات أوضحت فيها رأيي وفندت كل ادعاءات أوكامبو ومحكمته السياسية الجائرة. هكذا كنت أمارس حقي في إبداء الرأي في موضوع قومي. لقد شعرت في مفاوضات تكوين الحكومة وتشكيلها الأخير إن أطروحات المتفاوضين لم تتطرق إلى موضوع البيئة من قريب أو بعيد مع أن مشكلاتنا كلها السياسية منها والاجتماعية تدور في فلك البيئة ولا أجد أية مشكلة خارج إطار البيئة وقضاياها. ولأن البيئة الآن أصبحت المكون الأساسي للسياسة فإن البيئيين سيأتون بإذن الله. «ونواصل». آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشترِ ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع.