ما يحدث في بريطانيا وفي قلب عاصمتها لندن من تظاهرات احتجاج وأعمال عنف وتصدٍ قمعي من قبل الشرطة للمتظاهرين والغاضبين، هو صورة مصغرة فقط لما يفور ويمور في تنور المجتمعات الغربية التي ظلت تتباهى بديمقراطيتها ونظامها في معالجة المعضلات الاجتماعية، وما حققته من رفاهية وعدالة وكفاية وحرية كما تدَّعي. ليس هناك فرق بين ما يحدث هذه الأيام في لندن وعواصم العالم الثالث الأخرى، وخاصة في البلدان العربية، وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة للاحتجاجات الدامية والعنف في الدول الغربية التي في حقيقتها تطبق أسوأ أنواع التظالم الاجتماعي والتهميش السياسي الذي لا نراه من خلف جدر الدعاية السياسية السميكة وصخب الآلة الإعلامية وطبيعة هياكل ونظم الحكم القائمة، بينما الحقيقة كامنة وراء الانسحاق الاجتماعي والاقتصادي وغول الرأسمالية الجشع الذي توالدت في كنفه البطالة والاستغلال والحيف والتمايز بين فئات المجتمع، ونشوء طبقات وشرائح اجتماعية جديدة تشبه طبقات النبلاء في أوروبا في عهود تيهها القديم. ليست احتجاجات لندن نتاجاً للأزمة المالية العالمية ولا سياسات حكومة كاميرون الاقتصادية ورفع الدعم عن التعليم وبعض المجالات الأخرى، كما أنها ليست نتاجاً للآثار الجانبية لمحاولات إصلاح ما فسد في النظام الاقتصادي العالمي والبريطاني على وجه الخصوص، بل هي تراكمات تاريخية وحتمية لا بد منها في تطبيقات النظام الرأسمالي الغربي والمناهج السياسية والسياسات المصوبة لمعالجة مشكلات الواقع الاجتماعي التي ثبت فشلها في كل الدول الغربية التي تبحث عن بدائل الآن لمواجهة الأخطار التي تتهدد أمنها وسلامتها. فقبل أيام من فضيحة أخطبوط الإعلام مردوخ في بريطانيا أذكر حديثاً لكاتب هذه السطور مع الدكتور غازي صلاح الدين وهو متابع ممتاز لما يدور في الدول الغربية، توقع فيه أنه في القريب العاجل ستظهر آثار مدمرة على بنية النظام السياسي والاجتماعي الغربي، وخاصة في بريطانيا، مع تآكل قيمها الأخلاقية على خلفية فضيحة التنصُّت المرتبطة بإمبراطورية مردوخ، لأن أسرار ما يحدث من تحالفات بين المال والسياسة والعالم السري لهما، باعدت بين المجتمع والسلطة، وأوهت العلاقة القائمة على الثقة واحترام القانون والمُثل التأسيسية للدول الغربية. وقبل سنوات في منتصف التسعينيات من القرن الماضي أو قبله بقليل، صدرت دعوات وأفكار من مفكرين وأكاديميين غربيين في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدةالأمريكية، في مجال علم الاجتماع السياسي، نادوا فيها بضرورة ما سمُّوه بأنسنة الرأسمالية وإضفاء مسحة إنسانية عليها لامتصاص وكبح غلواء تأثيراتها ونتائج العولمة واقتصاد السوق والشركات الكبرى وتحكم فئات قليلة في الأموال والفرص. وواضح أن نظام الضمان الاجتماعي الغربي، لم يحقق الغرض منه، وظلت حاجة المجتمعات الغربية ملحة للغاية لإيجاد حلول ومخارج من مهاوي النظام الرأسمالي المتوحش، حيث لم يكن المقابل لها ناجحاً، أي الإشتراكية التي كانت في قمة خطلها الاستبدادي، والتي فشلت بدورها في علاج أدواء وأمراض المجتمعات الأوروبية التي حكمتها وتحكمت فيها، كما أن الأحزاب الاشتراكية الغربية التي حكمت منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي الكثير من الدول الأوروبية الغربية الكبرى كحزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الفرنسي والاشتراكيين في إيطاليا وألمانيا وبلجيكا وغيرها، عجزت عن أن تضع حداً لكبح جماح الغول الرأسمالي الذي يغرس أنيابه الحادة في اللحم الحي للمجتمعات الغربية. ونخلص من هذا كله للإشارة إلى أن العالم كله يشهد الآن تحولات كبيرة، وليس وطننا العربي المتخم بثوراته الشعبية ودماء شعوبه وحده الغارق في دوامة التغيير العنيف، ولن يكون مسرح هذه التحولات في العالم الفقير جنوب الكرة الأرضية، فخلخلة النظام الرأسمالي الجشع لن تتوقف بالأزمة المالية العالمية ولا أزمة الدَّيْن الأمريكي ولا احتجاجات بريطانيا، فمهما اختلفت المسببات من تمايزات عنصرية واجتماعية أو قضايا فردية، فالنتيجة واحدة، وهي أن حقبة جديدة تطل برأسها، ولن يتوقف تمدد النار في الهشيم.. فهل تغطي ورقة التوت الوجه الحقيقي لبريطانيا؟!