في عام 1966م كنت في بعثة دراسية بمدينة ادنبرا عاصمة اسكتلندا. وذات ليلة دعوت بعض الزملاء من الأسكتلنديين للعشاء. وكان من ضمن العشاء سلطة روب. فتذوقها الضيوف وأعجبوا بها كثيراً وسألوا عنها.. فأوضحنا لهم أن سلطة الروب من الأطباق السودانية الشعبية ومن أسهل انواع السلطات إعداداً.. حيث لا يتطلب إعدادها غير شوية عجور أو خيار Cucumber مع لبن «رايب» فصاح أحد الضيوف مندهشاً: - بس كدا؟ خيار ولبن رايب؟ - نعم. هز رأسه وهو غير مصدق وقال ما معناه: «غايتو إنتو يا السودانيين أغرب ناس.. هسع الخلاكم تلموا الخيار على اللبن الرايب شنو؟ وعرفتوا الحكاية دي كيف؟» فأجبته: - يا أخي إنتو إخترعتوا الطيارة دي من ما في.. واخترعتوا التلفزيون وغيرو... مستكترين علينا نحنا نخترع سلطة الروب؟ ومن يومها عظم في عيني ذلك الاختراع السوداني الأصيل والذي ألزمت الست بعلتنا وذريتي ألا تخلو مائدتنا من سلطة الروب.. وأوصيت الجميع وأوصيكم أحبتي القراء بذلك الاختراع المدهش الذي جعل الخواجات يرفعون حواجبهم وقبعاتهم تحية وإجلالاً لاختراع لو أنصف حكام جائزة نوبل لمنحوا الشيخ محمد ود العقيل البتلابي الجائزة لاختراعه لسلطة الروب حيث تقول الرواية إن محمد ود العقيل البتلابي عاش في أواخر القرن السادس عشر بناحية بتلاب مركز ريفي أم تلاليش. وقد كان ذات يوم في حواشته بالتحتانية فأحس بجوع قارص فتناول عجورة وكجمها وأخذ جغمة من لبن قارص «روب» معلناً ذلك الاكتشاف العجيب الذي يجمع بين العجور والروب في مؤاخاة مذهلة جعلت الخواجات يوماً يرفعون حواجبهم وقبعاتهم. وتقول الرواية إن الشيخ محمد ودالعقيل البتلابي مات عن عمر ناهز المائة عام وليس له من دنياه إلا عجورة مغموسة في لبن رايب صارت منهجاً يدرس في مركز أبحاث الأغذية دون أن يكرمه أحد أو يذكره أحد ولكنني أذكره لكم هنا حتى يعرف القارئ الحاضر القارئ الغائب. ومن يومها أيضاً أنا أتتبع الألمعيات في اكتشافات الكيمياء الشعبية السودانية. وكان ذلك الاكتشاف المذهل في السبعينيات عندما تلفت الناس يوماً فلم يجدوا الجاز الأبيض للمباتهم والموجود في محطات الخدمة جازولين فقط حتى أن مغنيتهم كانت تغني: أحرق الجازولين بالأوبر جاز.. وبالطبع لا يمكن أن تقتنع الكيمياء الشعبية بذلك فتحرق الجازولين بالأوبر جاز لأنه يولد دخاناً مزعجاً.. فهبط الحل على أهل الحل.. جاءوا بظهرة الغسيل الزرقاء ورموها داخل زجاجة الجازولين فإذا بها تجذب ذلك اللون الأصفر والزيت المذاب في الجازولين وتخرج لهم جازاً أبيض.. فرحت الأمة السودانية قاطبة من أقصاها الى أدناها بذلك الاختراع العجيب وتوارى صاحبه عن الأنظار فهو لم ينشد من اختراعه ذلك جزاءً أو شكورًا. ويمكن أن نكرر نفس عبارات الخواجة المندهش: «غايتو إنتو يا السودانيين أغرب ناس.. هسع الخلاكم تلموا «الظهرة» على الجازولين شنو؟ وعرفتوا الحكاية دي كيف؟» حكى لي أحد الإخوة أنه لم يلاحظ أن كُم جلابيته كان محشوراً داخل باب التاكسي حيث إنه هو شخصياً كان محشوراً مع آخر داخل التاكسي بينما استحوذت امرأة هركولة فنق درم مرافقها على ثلاثة أرباع المساحة. وعندما ترجل من التاكسي وجد أن كم جلابيته قد تلطخ بزيت أسود كان يسيل من «أكرة» الباب. حاول غسله بالماء فلم يفلح وبينما هو في حيرته تلك جاءه الحل من أحد العالمين ببواطن الكيمياء الشعبية قائلاً: - هي نان .. دي ما بغسلوها كدي يا الناجح؟ .. أقيف. أمش يا ولد جيب من الدكان «...كولا» «أمتنع عن ذكر اسم المشروب كاملاً حتى لا يكون ذلك دعاية مجانية للشركة.. لذا لزم التنويه». وجاء الولد بالمشروب الغازي وصبه على كم الجلابية فإذا بها تصير بيضاء من غير سوء. ثم أعقبها بالماء الذي أزال أثر المشروب. مشروب تنتشر دعايته والإعلان عنه في جميع الأماكن وعلى ظهور سيارات التوزيع وذلك لكي ينعش ويروي العطش ولم تفطن شركته أن فيه مآرب أخرى وأنه ربما يصلح ذات يوم لتهش به على غنمك حسب اكتشافات الكيمياء الشعبية. الكيمياء الشعبية بحسها المرهف تكتشف ذلك وهي لا تدري أن المشروبات الغازية تحتوي على أحماض معينة مثل حامض الفوسفوريك والستريك ولأنها أحماض فيمكن أن تغسل أكثر بياضاً. وعلى ذكر المواد التي تغسل أكثر بياضاً فقد اكتشفت الكيمياء الشعبية أن حبيبات «ماجي» تضاف لماء الغسيل ولأنها تحتوي على جلوتيمات الصوديوم فإن الملابس البيضاء تتخلص من كل الألوان الكاكية التي تكتسبها من الطين المخلوط بالماء فتصير أنصع وأنضر. كان أحد الإخوة من حلفاالجديدة يعمل جاهداً على تنبيه العربات ألا تسير وسط حواشته فتغبر لوزات القطن البيضاء الناصعة فكان يصيح فيهم: أقيف عندك.. إنت حتوسخ القطن.. ولكن أصحاب العربات لا يأبهون ولا يهتمون. فكتب عددًا من اللافتات: «أيها المواطن لا تقود عربتك وسط حواشة القطن» «ممنوع المرور داخل حواشات القطن».. «قطن السودان الأبيض هو ذهب السودان فلا تغبره» ولكن أصحاب العربات لا يأبهون ولا يهتمون. وأخيراً صاح فيهم: وأنا مالي؟ السنة دي إن شاء الله تلبسوا كاكي. ولا يدري الأخ من حلفاالجديدة أن الكيمياء الشعبية وجدت له الحل المناسب. فعندما يأتي حصاد القطن عليه أن يتفق مع طائرات رش لترش له محلول حبيبات ماجي البيضاء على قطنه الكاكي. وكنت قد كتبت من قبل أن مكعبات شوربة ماجي تستعمل في غرب السودان لأغراض خاصة بالإبل ولا داعي لتكرار ذلك. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشتر ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع.