«إنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً «19» إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً«20» وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً«21» إِلَّا الْمُصَلِّينَ«22) ما اعظم القرآن عندما استثنى فقال «الا المصلين» القرآن يقول الانسان بلا اسلام متوحش قبيح جاهل ضال مجرم غبى معتوه حقير خسران، فإن الانسان هلوع ذو طمع وحرص شديدين يقدم مصلحته الخاصة على مصلحة مجتمعه وشعبه وأمته بل وجماعته وخاصته بل يقدم نفسه على رضا ربه وكلامه، هذا هو الانسان بلا دين ولا قيم هو امكر من الثعلب واقبح من القرد وأغدر من الذئب وأكذب من التمساح إذا أصابه جزع إضطرب فؤاده وتصبب عرقه وجزعت نفسه لا يعرف ثبوت الجبال ولا جلد الرجال، واذا اصابه خير كان منوعًا شحيحًا بخيلاً يخشى ضياع ما فى يديه، فالانسان جاء الدين ليرقى به، ليزكيه، ليحيي به حياة السعادة ويمضى به مضاء العزيمة ويسلك به دروب الحياة فى وعى وبصيرة، فما اعظم القرآن فى هذا الاستنثناء «إلا المصلين»، ومثلها سورة يحفظها كل مسلم « والعصر ان الانسان لفى خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» وعندما تتأمل قسم الله بالعصر تجد حكمة بليغة تسجد لها الجباه وتخضع لها النفوس وتدمع عيون المتأملين لما كانت العصرانية والعصرية هى مدخل التطور والحداثة عندهم و التى تعنى ترك الرجعية والظلامية المتمثلة فى الاسلام على حد زعم الراغبين فى الفوز والربح اقسم الله بالعصر الذى يريدون مجاراته، ان الفلاح فى الالتزام بتلك الظلامية المدّعاة وان غيرها خسران وان تمظهرت بغير ذلك، والرأسمالية المتوحشة حاملة لواء الحداثة التى زعم فوكياما انها نهاية التاريخ وآخر صور العصرية والتطور، يبقى التعبير بالخسران اقرب لوجدانها وهى اللاهثة وراء النفعية والربحية. الإخلاص أشق شيء على النفوس الانسان يجد لنفسه حظًا فى كل عمل يقوم به وجهد يبذله وامر من الخير يسعى فيه، والانسان بين صراع السلطة والجاه والمال والمغنم اذا استطاع ان يخلص نيته لله فانه لا يزيده مدح المادحين نشاطًا ولا يقعده ذم الذامين عن العمل لانه ليس موظفًا عندهم بل هو صاحب مشروع ورائد رسالة، وحين يبقى المشروع هو جاه تنشده ذاته وسلطة تطلبها نفسه ومال يتطلع اليه قلبه عندئذٍ يموت المشروع ويمضى هو الى اشد العذاب، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن سليمان بن يسار قال: تفرق الناس عن أبي هريرة فقال له ناتل أهل الشام: أيها الشيخ حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار». طلب للعلو قابله تحقير انظر الى هذا التحقير «فقد قيل»، ان ما كنت تسعى اليه من ان يقال فيك عالم مجاهد كريم «فقد قيل» مبنية على المجهول بغض النظر عن من قال كائنًا من كان فإنه لن يغنى عنك من الله شيئًا، والاخلاص اغلى ما يملكه الانسان به يثبت الله العبد عن المحن ويعلى له ذكره ولو بعد حين وتعجب حين ترى علماء كبار من ائمة الامة وجبال الفقه ماتوا فى السجون لا سجون الفرس والروم بل سجون ولاة الامر، ومن العلماء الذين ماتوا فى السجون الإمام ابوحنيفة ومحمد بن نوح ونعيم بن حماد وابن تيمية ومنهم من شيعته اللعائن الى القبور بفعل السلطان الجائر وكهنته وسحرته من علماء السوء الذين كانوا يحرضون على أولئك الاعلام ثم ماذا كان بعد ذلك؟! اندثر المحرضون وارتفع ذكر المحرض عليهم انه اخلاصهم فالذى يعمل لله لا تلين له قناة ولا تفتر له عزيمة لانه يريد ان يقدم كل شيء لا لشيء الا لنيل رضوان الله، ما انفس الإخلاص وما اعظمه وما اقبح وجوه المتطلعين للجاه والسلطة، والمال والمغنم لا يجد الناس لكلامهم أثرًا فى القلوب ولا ذكرًا فى النفوس. قالوا عن الإخلاص ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى اقوالاً فى الاخلاص فى كتابه الماتع «مدارج السالكين» قيل إنه سرّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا يطّلع عليه شيطان فيبطله ولا هوى فيميله وقيل: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين وقيل: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن ومن كلام الفضيل رحمه الله: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما، وقال بعضهم: الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهدًا إلا الله، ولا مجازياً سواه وقال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يومًا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. قلت الاخلاص ان لا ترى لنفسك حولاً ولا قوة وانت تطيعه وترى ان طاعته نعمة منه توجب الشكر ليس لنفسك فيها فضل، والإخلاص يجعلك تحسن الى من يسيء اليك وتخدم من يخونك وتدافع عن من يدفع بك الى المهاوي ومنطق السماء عندما يقول إن مآل ذلك فى ان تكون فى نفوس خصومك قبل احبابك عزيزًا وفى الحديث «ما ازداد عبداً بعفو الا عزًا» ان لذة هدوء البال ونعمة طمأنينة النفس فى التجرد لله حين لا يصبح العمل للامة وظيفة يتعاطى عليها المرء اجرًا ولا منصبًا يرجو المرء من ورائه فخرًا ولا مغنمًا يأمل المرء من ورائه عزا فالعزة كل العزة حين تفنى نفسك وتنكر ذاتك لتبقى القضية وتمضى بعزيمة فى نشاط عظيم لتبلغ الغاية، غاية اقامة دين الله وتمكين الأمة المغلوبة على امرها.