كان جلياً من وحي المماطلات التي ظل يبديها الوفد الجنوبي المفاوض بأديس أبابا، أنها لن تحقق أي اختراق لجهة القضايا الرئيسة في الموضوعات المطروحة على الطاولة ورفضهم لأي مقترح يقدّم طالما تُسارع الحكومة بقبوله!. الجنوب على عهد باقان وألور لا يمكن أن يصل إلى توافق مع حكومة السودان، لأن هؤلاء يأتمرون بأمر أوليائهم في الغرب وأمريكا الذين ظل حضورًا بجوبا وحول المفاوضات، يرفدونهم بالخطط والمواقف التآمرية لنسف أي تقدُّم قد يطرأ بسلسلة من العقبات والمتاريس الممنهجة!. ربما كان من بين الأسباب التي تمنع التسوية تلك المرونة التي يبديها الوفد الحكومي المفاوض بغية الوصول إلى حل، ولكن بعقلية هؤلاء فإن ذلك يفسر ضعفاً يستوجب المزيد من المزايدة والمشاكسة من قبل الجنوبيين! لذلك كان طبيعياً أن تفشل الجولة الأولى في محادثات قمة أديس أبابا بين السودان وجنوب السودان لمعالجة أزمة النفط بحضور الرئيسين البشير وسلفا كير قبيل انعقاد القمة عشية يوم 27 يناير 2012م! وبالرغم من أن الرئيسين ناقشا اتفاقاً كان من المنتظر أن يجمِّد الوضع ويلغي الإجراءات المنفردة التي اتخذها كل من الجانبين، لكن المحادثات انهارت عندما انسحب سلفا كير فجأة وتراجع عن التوقيع لأنه لا يملك القرار وهذه المجموعة من حوله «انهارت بمكالمة هاتفية»!. وقد أكد ملس زيناوي رئيس الوزراء الإثيوبي الذي رأس اجتماع شرق إفريقيا بأن البشير وكير كانا قد اتفقا على توقيع اتفاق رغم التباينات بينهما والتحفظات التي أبداها كل طرف على نقاط بعينها! وقد تعلل سلفا بأن وفده ما زال يناقش الاتفاق ولا يستطيع التوقيع، والحقيقة التي لا مراء فيها أن الأمر خارج سيطرته ينتظر توجيهات من يديرون موضوع النفط ومصالحهم في المنطقة!. نعم لقد فشلت المفاوضات الفنية برعاية أمبيكي وفشلت أيضاً قمة الإيقاد التي حاولت القيادة الإثيوبية تجييرها لصالح هذا الخلاف بأن يحدث التقارب والاختراق في ملف النفط!. لقد انعقد لقاء الرئيسين على هامش قمة «الإيقاد 18» الرباعية بمشاركة كينيا وإثيوبيا بجانب رئيسي الدولتين وأمبيكي، وقد كان زيناوي واضحاً في حديثه للصحفيين نهاية الجلسة «كانت هناك موافقة مبدئية على التوقيع رغم تحفظات الجانبين حتى نلغي القرارات الأحادية التي أصدرها الجانبان ومن ثَمّ حل الأزمة عبر مقترحات المبادرة»، لكن سلفا كير قال في نهاية الجلسة إنه لا يستطيع أن يوقع على الوثيقة لأن وفده ما زال يدرسها!. واستطرد رئيس الوزراء الإثيوبي «لم يتفق الجانبان في هذا الاجتماع على المقترح الإفريقي، لكن النزاع حول النفط مازال موجوداً في أجندة القمة، لكن تم الاتفاق بين الطرفين على استمرار المفاوضات خلال فترة انعقاد القمة»، وأضاف: «نحن لم نصل بعد لنهاية المطاف وهناك اتفاق بين الطرفين على كثير من نقاط المقترح الإفريقي». لكن مازالت هناك بعض النقاط الخلافية. وقال زيناوي إن لجنة وساطة من الاتحاد الإفريقي اقترحت إلغاء الإجراءات المنفردة التي اتخذها الجانبان كلاهما، لكنه لم يوضح ماذا يعني ذلك!. ويقيني أن المفاوضات ستمتد بالقدر الذي يمكن أن تتحمله حكومة الجنوب في الصمود أمام انعدام الموارد وتعويلها الكامل على النفط وتدفاقاته، وما يقول به ألور من وجود احتياطي نقدي يغطي 5 سنوات، فهذا من قبيل الأحلام وذر للرماد فى عيون شعب الجنوب الذي يكتوي بنيران الندرة في معظم احتياجاته والغلاء الطاحن وارتفاع المعيشة بنحو يفوق اليابان مع الفارق!!.. قرار حكومة الجنوب بإيقاف ضخ البترول مجرد فرمان أمريكي طلب إلى حكومة الجنوب إنفاذه، وأمريكا وإسرائيل وعدوهما بملء الفراغ الذي قد تحدثه هذه الخطوة وتعويضهم عن تبعاتها!. هذا القرار يستهدف أولاً اختبار قدرة السودان على الصمود وما هي البدائل المتاحة له، ولكن في مداه القريب يراد له إدخال الحكومة السودانية في أزمة اقتصادية طاحنة وإعادة إنتاج أزمة حادة في البترول ومشتقاته إلى ما قبل وصول الإنقاذ إلى السلطة لتعظيم معاناة الشعب والدفع به نحو «ربيع عربي سوداني جديد بالتنسيق مع جهود المعارضة وحركات التمرد وما يجري من محاولات داخلية للنيل من حالة الاستقرار والتنمية التي تشهدها البلاد»!. ثانياً وهو الأهم فإن القرار الخارجي هذا يعبِّر عن رغبة الإدارة الأمريكية في العودة إلى الاستغلال والانفراد باستثمار بترول الجنوب وطرد الشركات الصينية وغيرها من الجنوب، واستبدالها بالشركات الأمريكية واليهودية بحسبان أمريكا كانت أول من اكتشف النفط هناك لكنها انسحبت بعد أن أخذت نصيبها عيناً من الشركات الصينية!. فالتفاوض مع الحركة الشعبية لا يقوم على المنطق والمصالح المشتركة، ولا يأبه قادتها بما قدمه السودان لأجلهم ولا مستقبل الجوار ومصير الشعبين!. وصبية قرنق يحاولون وكالة عن أربابهم ممارسة لعبة خطرة على أمننا واستقرارنا «حافة الهاوية»، بمزيد من الضغط والابتزاز الذي جلبه الانفصال وما منحه اتفاق السلام لهم من امتيازات يريدون لها أن تستمر!. ومبادرات الشمال مهما تجمّلت لن تجد آذاناً صاغية لدى جوبا، طالما هي تطالبنا في منحى غريب عبر هذه المفاوضات، أن يتنازل السودان عن أبيي ويعترف بتبعيتها للجنوب، وأن يقرُّ بأحقية الجنوب في المناطق الحدودية الخمسة الخلافية ثم التنازل طواعية عن نصيبه في أسهم شركة سودابت!؟. هكذا تنهال المطالب الجنوبية دفعة واحدة في مصفوفة شروط تعجيزية مقابل النفط، ولا تدري القيادة الجنوبية أن المضار التي ستترتب على قفل هذه الآبار ستكون جسيمة وهي قد صممت للضخ المتواصل، وأن ما يقال عن خط تم الاتفاق عليه عبر كينيا مجرد مناورة رخيصة وصفقة مفروضة بتقدير من دفعوا بها، وهو عمل شاق إن توفرت له السبل والأموال والقيادة ذات الإرادة سيأخذ وقتاً طويلاً إن قدر له أن يقوم أصلاً، لأن كل الدراسات الأوربية التي أجريت لبدائل من شرق إفريقيا أثبتت عدم جدواها لعدة عوامل اقتصادية وتقنية وأمنية، فضلاً عن التقلبات السياسية في هذه البلدان ومردها على هكذا خطوة!. يضاف إلى ذلك أن ما لا تعلمه حكومة الجنوب والأطراف الخارجية المتآمرة التي تدفعها للقطيعة والعداء مع الشمال، لا تدرك أن الشمال وطن أوضاعه من غير نفط الجنوب وله من البدائل ما يسد حاجته، وأن موارده ظلت قائمة ومتنوعة، واقتصاده في تعافٍ قبل مجيء البترول الذي ما يزال شراكة متعددة وبه استحقاقات لأطراف عدة، والسودان ضمن هذه المنظومة له نصيب محدد يأخذه كما هو حال الجنوب!. فالشمال اتعظ بعبرة اتفاق السلام الشامل وقضاياه العالقة بعد الانفصال ومزايدات الجنوب المكرورة، وهو يؤسس حالياً لآباره ومربعاته التي توافرت لها كل البنيات التحتية والمستقبل أمامها بلا حدود فليفعل سلفا كير بنفط الجنوب وبنياته ما شاء فتحاً وإغلاقاً!!. وليس بمقدور أي فريق سوداني مفاوض أن يعيد تجربة نيفاشا وتنازلاتها الكبيرة التي أوردت البلاد المهالك، من يتعشم في تنازل على نحو ما يدعو له باقان كما أشرنا فهو حالم وسيظل رهين حلمه!.على الحركة الشعبية أن تفيق من سباتها وتتحمل مسؤولياتها كدولة لها شعب ومصالح وجوار، لا الشروط والإملاءات الخارجية التي تتنزل عليها من هذا الطرف أو ذاك غير آبهة بمآلاتها ومخاطرها التي قد تنجم!. وإن آثرت تهديد سلم المنطقة وهي قد شرعت في ذلك بالفعل عبر حملاتها في جنوب كردفان والنيل الأزرق وتحشيد المليشيات التمردة من دارفور بأراضيها، على قادة البلاد أن يتحسسوا بنادقهم، فهي حرب شاملة والنفط أحد أقوى كروتها وأدواتها ومطلوباتها، أرادتها دول خارجية كبرى وإقليمية والحركة الشعبية من يقوم بتنفيذها، ولا ينبغي علينا الانتظار أكثر من ذلك حتى نباغت كما استبيحت كادوقلي والدمازين بتدبير شبيه، ولاتَ ساعة مندم!!؟.