حين حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم جميعاً حثاً حثيثاً على العمل، وأن يأكل أحدهم من عمل يده وإن أدى به الأمر أن يخرج إلى الخلاء محتطباً ويأتي بالحطب ويبيعه ثم يأكل من ثمنه حلالاً خير له من أن يتكفف الناس بالسؤال يمنعونه أو يعطونه.. ولعل الدعوة للاحتطاب من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام رضوان الله عليهم قدِّر لها أن تكون نهاراً حيث يبصر المرء وهو في الخلاء أو الفلاة فلا يأخذ إلاّ شيئاً نافعاً يصلح شأنه ولا يضر الآخرين إن جاء به إليهم ذلك لأن من أصول الإسلام وقواعده الذهبية «لا ضرر ولا ضرار». أما حاطب الليل فذاك الذي يأتي بالغث والثمين، وهو الذي يأتي بالضار؛ لأنه يأخذه من غير بصيرة وبصر خبط عشواء وذلك لداعي الاستهلاك الشخصي وإن ألحق الأذى بالآخرين. فكرت كثيراً ولا أزال أفعل في ما هي الأسباب الموضوعية التي حملت دكتور البوني على تسمية عموده اليومي الذي جال في أكثر من صحيفة سودانية باسم حاطب ليل وإن في ظاهر الاسم من حيث الدلالة اللغوية والمعنوية مذمة وضحالة.. هل أدرك دكتور البوني من وقت مبكر أنه لا يقدر أن يقدم فكراً ناضجاً نافعاً إن اختار اسماً غير هذا.. أم أراد أن يجعل لنفسه وقاية وسبيل معذرة إلى الآخرين إن حمل جراب عموده السفساف والمتردية وسقط المتاع وبذا ينجو من الحرج والمرج وهو يقول يا قومي لا تعاتبوني لا تأخذوني من رأسي هو حاطب ليل، وحاطب الليل لا نجاة له من ورود وادي الأفاعي السامة القاتلة!!. أم أن الدكتور البوني لا يفقه دلالة ألفاظ العربية فكان الاختيار غير موفّق؟ ومن ثم كثيراً ما يُكتب في هذا العمود يفتقر إلى الفكر الرصين.. واللسان الحصيف.. والمعنى النظيف.. ولكنه قريب إلى القهقهة، والمسخرة وسطحية الرؤية. كان يشغل فكري كثيراً ومنذ أن كنت طالباً بالجامعة الإسلامية من الذي دس دكتور البوني ليصبح أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة الإسلامية وذلك قبل أن أعرف عمود حاطب ليل وما أدراك ما حاطب ليل، ثم ما أدراك ما حاطب ليل نفعه قليل وضره... ربما كثير من الناس شاهد وتابع برنامج البوني مع منى أبو زيد من خلال التلفزيون كيف أن البوني كان يصرخ في وادي الظنون بحثاً عن المرحومة «وحدة الشمال والجنوب» وكيف كان يتصبب عرقاً وهو ينفخ في قربة مشروخة، ويستفرغ وسعه في سبيل إحياء عظام نخرة بالية.. وظل يصرخ كحال آخرين مثله واهمين حتى أتاه يقين الانفصال فهل يظل البوني يردِّد مقولة دكتور التجاني عبد القادر حامد الذي كتب بحثاً قال فيه: «وحدويون وإن جاء الانفصال» ربما نقول لدكتور التجاني عبد القادر الذي نقدِّره ونحترمه يصلح شعارك هذا مع إخوتنا في شمال الوادي ولا يصلح بعد الآن مع جنوب السودان.. أم يظل البوني يردد مقولة دكتور حسن الترابي.. شيخ حسن سابقاً حين قال إن نخباً جنوبية وعدته بإمكانية حدوث وحدة جديدة بين الشمال والجنوب في حالة سقوط نظام الإنقاذ في الخرطوم. وقولنا نظام الإنقاذ من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء.. حيث لم يبقَ من نظام الإنقاذ إلا رسمه وأطلال ونقوش كما قال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي قُتل بعد عشرين سنة في إمارة الحيرة بالبحرين ونجا خاله المتلمس الذي كان يرافقه في تلك الرحلة ولذا عُرف بقتيل العشرين.. يقول طرفة: لخولة أطلال ببرقة سهمد.. تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفاً بها صحبيّ على مطيّهم.. يقولون لا تهلك أسى وتجلّد وإن بدا المؤتمر الوطني وقد شاخ وهرم واشتعل في ثوبه الفساد فهو الخلاصة التي انتهت إليها الإنقاذ، ولكن مكابر وغير منصف من يريد أن يجرد الإنقاذ من فضل وسبق وأداء دؤوب في خدمة هذه البلاد، وإن أصابها اليوم العطب وقعدت بها الحيلة، وانزوى أكثر أبناؤها الخلّص، وترجّل اليوم في محرابها ومنابرها النفعيون وعبدة الكرسي الذين صار بعضهم يصاب بالحمى الصفراء عندما يحين وقت التشكيل الوزاري ولا يشفى إلاّ حين يدرك أنه أدى القسم الجديد. هذا الداء العُضال الذي أصاب سواداً كثيفاً من الإسلاميين هو الذي أتاح فرصة مهمة للعلمانيين أمثال دكتور البوني صاحب حاطب ليل الذي لا يحمل أحياناً كثيرة إلا نطيحة أو موقوذة أو متردية أو «فطيسة» نهشها ذئب جاسر. ما كان لدكتور البوني أن يقول قولته الفطيرة العوراء «إذا قامت ثورة شعبية في السودان فإنها سوف تطيح الإسلاميين الحاكمين، ولن تقدم أي شخص يرفع أي مبدأ إسلامي كجند من أجندته السياسية» اه. أقول: دكتور البوني غابت عنه حكمة عجيبة لأنه حاطب ليل حين سمى الثورة في السودان بالشعبية وغفل أن الشعب الذي يقوم بهذه الثورة هو شعب السودان المسلم الذي حسم هويته بعد انفصال الجنوب ودانت له أرضه أرض الإسلام.. وغفل الحطاب الليلي أيضاً أن شعب السودان ما ناصر الإنقاذ وقدم أرتال الشهداء والجرحى إلاّ لأن الإنقاذ قالت في سبيل الله قمنا!! لئن فارقت الإنقاذ أو حكومة المؤتمر الوطني درب العزة وخلدت إلى الأرض.. هذا لا يعني أن شعب السودان المسلم الحر خلد إلى الأرض أيضاً. كما أن دكتور البوني عجز هنا عن تفسير اتجاه مهم جداً وهو التفريق بين الفعل والفاعل وبين المنهاج ومتخفي هذا المنهاج وبين الدّين والتديُّن.. حيث إن الدِّين شيء صالح ومبرأ من كل عيب ونقص والتديُّن هو كسب الإنسان من الدّين قدر استطاعته، ولذا عجز أو فشل الإسلاميين هنا أو هناك لا يعني بأي صورة من الصور فشل الإسلام كمنهج شامل للحياة يمثل الحل الناجع لمشكلات الحياة كلها وإن تعقدت «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» للتي هي أقوم في التربية والعبادة والعقيدة والأخلاق والاقتصاد والسياسة ولكن يبدو أن البوني غير فقيه حتى في مجال تخصصه السياسة والاقتصاد.. ولذا ليس هناك شيء واحد يمنع الإسلاميين من رفع المبادئ الإسلامية كأجندة سياسية على مر الزمان وعلى مر تواصل أجيالهم، وإن أخفق السابقون لا يعني هذا أن اللاحقين أيضاً سيخفقون. ولكن الذي يريد أن يصل إليه دكتور البوني من تحليله الطائش ومثله مثل رفاقه العلمانيين الآخرين هو اتهام حركة الإسلام السياسي في عدم قدرتها على قيادة الحياة المعاصرة، وهم يتخفون تحت ستار الدعوة إلى فصل الدين عن الحياة وعن السياسة وهو منتهى غاية العلمانيين الذين لا يفهمون دواعي نشأة العلمانية في موطنها الأصلي في الغرب الكافر.. ولا يفهمون أيضاً حقيقة أن الدين المسيحي قد حُرِّف ولذا أنتج العلمانية هناك، وهو أمر لا ينطبق على الإسلام، ولذا لن تتعايش العلمانية مع الإسلام ولكنها تتعايش مع الديانة النصرانية واليهودية المحرَّفة المبدَّلة. لكن البوني وغيره من بني علمان يتحايلون بالألفاظ والمصطلحات وإلاّ كيف نفهم دعوته إلى إعادة النظر وتقويم علاقة الدين الإسلامي بالدولة؟ هو يخفي دعوته وراء هذا التحايل ولكن الذي يريد أن يقوله ليس تشفياً في الإسلاميين ولكن قيادة دعوة فصل الدين عن الدولة، آخذين في الاعتبار أن البوني ليس فاقدًا تربويًا وليس بجاهل ولكن يحمل درجة دكتوراه بغض النظر عن ما يحيط بها. لكن ليت شعري البوني وغيره يخلع عن نفسه ثوب الهزيمة النفسية إزاء الآخر ويدرك أن الإسلام منهج كامل وشامل للحياة.