الأنظمة ذات الخطاب السياسي الديني التي تمكنت من الإمساك بتلابيب الشعب السوداني مدة غير قليلة هي التي أوصلت الشعب السوداني الى ما هو عليه ، إذ تمكنت من تكميم الأفواه وخنق الحريات ومصادرة الأفكار وإشهار أحكام شريعتهم في وجه المخالفين . ولا يرون حرجاً أوخشية في تطبيق أحكامهم تلك أمام الناس ، وكما حدث لسيدة سودانية – قبل عدة سنوات – عندما كانت تجلد وفي الشارع العام وأمام الناس بتهمة الزنى ، وكما تداولته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حينئذ. لا بل إنهم يذهبون الى التصفية الجسدية إذا لزمهم الأمر بدواعي الحفاظ على مبادئ الشريعة الاسلامية وكما حدث مع المفكر السوداني الكبير محمود محمد طه عندما حكم عليه بالاعدام بتهمة الردة رغم كونه رجل دين ومتبحر بأحكام الشريعة الإسلامية ولديه منجز فكري يزيد على المائة والخمسين مؤلفاً وفي شتى صنوف الأحكام الفقهية . الشعب السودان الذي عركته الأحداث وأنضجته الملمات ومكنته التجارب من رؤية الإسلام والمعتقد باعتبارهما ثقافة يمكنها أن تناقش الأحكام الفقهية التي وضعها الفقهاء المسلمون كونها منجزاً بشرياً قابلاً للنقاش – وليست نصوصاً موحى بها – وإن ذاك النقاش قد يتحول الى محاكمة لكل الأفكار التي تحط من شأن العقل وتقيد الحريات وتنال من التعايش السلمي أو تحط من شأن المرأة من خلال الدرجة الدونية التي رسمتها الأحكام الفقهية لها ، وبأفعالهم هذه يحوّلون مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة وأحكامها القطعية الى سلاح سياسي معد لإقصاء الخصوم من خلال التهديد والوعيد الذي يصل الى التصفية الجسدية تماهياً مع ما تقوم به التنظيمات الإرهابية . السوداني شخصاً والمثقف منهم على وجه الخصوص يعي ما يحيط به من مآزق ومخاطر. لكون وعيه منحاز أصلا للعقل يشهره في مواجهة خصومه ، وفي مواجهة التجهيل والجهل ، من خلال خزينه المعرفي المنتسب الى المنجز الحضاري الإنساني المفضي الى التجارب الإنسانية التنويرية المؤدية الى البناء المؤسسي لحقوق الانسان الذي تضمنه ميثاق الأممالمتحدة 1945 والإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 والعهود والمواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ذات النصوص الدولية الآمرة التي تلزم الدول الموقعة عليها بالتعهد باحترام الحقوق المعترف بها دون تمييز بسبب العرق أو اللون الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو النسب . وتلزم الدول تلك أن تتخذ من التدابير التشريعية وغير التشريعية لأعمال تلك الحقوق وادراجها في دساتيرها ان لم تكن قد تضمنتها أصلاً وضمن قوانينها ، ووضعها موضع التطبيق . استجاب المشرع السوداني – حديث العهد – لأحكام النصوص الدولية هذه وثقافة حقوق الإنسان وأسس : ( مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2020 ) ومن التجليات المرافقة لهذا التأسيس صدور مجموعة التشريعات المستمدة أحكامها من منظومة حقوق الإنسان ، منصفة للإنسان السوداني ومحققة لتطلعاته وهي : إلغاء حد الردة ، إلغاء جرائم المعتقد ومن ضمن الإلغاء جريمة التكفير ، والغاء عقوبة الإعدام للاطفال ، وتحريم ختان الإناث وتجريمه ، والإقرار بحق المرأة في أصطحاب أطفالها عند السفر خارج السودان ومن دون موافقة الأب ، وفي هذا النص انتصار للمرأة السودانية ، ويعد التطبيق الأمثل لاتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) . المشرع السوداني كان على وعي تام بأن إصلاح المنظومة القانونية والعدلية لا يتحقق إلا من خلال بناء مؤسسة متمكنة وقادرة ومؤمنة بموضوع الاصلاح ، وهذا ما حصل فعلاً عن طريق تشريع قانون: (مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2020) ومكنها من أن ترى النور رغم التحديات الكبيرة والخطيرة المحيطة بهم من كل جانب ، سواء كان من قبل المؤسسة الدينية ، أو من تبنّى الخطاب السياسي الديني أحزاباً ومجموعات وأفراداً . الخبير القانوني العراقي / القاضي هادي عزيز علي نقلاً عن اذاعة "المدى"