د. مزمل أبو القاسم *من نكد الدنيا على أنصار النظام السابق أن يضطروا إلى الدفاع عن التوجهات التي يتبناها مجلسٌ عسكريٌ انقلب عليهم، ووأد سلطتهم، واعتقل قادتهم، وشرع في تفكيك مكوناتهم الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وتقويض مجمل أركان دولتهم، وتجريدهم من كل مواقعهم الرسمية. *اضطروا إلى الاصطفاف خلف المجلس العسكري، من باب الرضا بأخف الضررين، فالمجلس بعد كل ما فعله بهم، وبمجمل قسوته معهم، أهون عليهم من أن يُسلِموا أمرهم إلى قُوى الحرية والتغيير، الموصومة عندهم بأنها تمثل اصطفافاً قوياً لتيارٍ عريضٍ، يستهدف تصفية كل مكونات دولة الإنقاذ. *طبيعي أن يعارض الإسلاميون مد الفترة الانتقالية لأربع سنوات، ليدعموا الطرح الرامي إلى اختصارها في عامين فقط، ومن المفهوم لدينا أن يرفضوا تحويل المجلس العسكري إلى مجلس سيادي مدني، يحوي تمثيلاً للعسكريين. *يساندون ذلك الطرح لأنهم يعلمون يقيناً أن سيطرة القوى الثورية على الفترة المذكورة سترتد وبالاً عليهم، وستشهد ملاحقةً صارمةً، تستهدف محاسبة من فسد وأجرم منهم، بحملةٍ غير مسبوقة، ستأتي مسنودةً ببرلمانٍ انتقالي، وحكومة تسيطر عليها مكونات الحرية والتغيير. *يرى الإسلاميون أن امتداد نفوذ تلك القُوى إلى المجلس السيادي سيضاعف من قسوة الحملة، لذلك انحازوا إلى جانب العسكر، وجاهروا بدعمهم، بعد كل ما فعلوه بهم. *مضى بعضهم أبعد من ذلك ليصموا المجلس بالضعف والخنوع في مواجهة مطالب قوى الثورة، سعياً منهم إلى استفزازه لمنعه من تنفيذها. *يضاعف ذلك الاصطفاف شكوك قُوى الثورة في توجهات المجلس العسكري، ويرفع معدلات الريبة فيها، بعد أن أظهر المجلس تلكؤاً لا تخطئه عين في استكمال بعض لوزام التغيير، سيما في ملف إعادة هيكلة المنظومة الحقوقية والعدلية، لتسريع وتيرة ملاحقة المفسدين، ومحاكمة من سفكوا الدماء. *من يرقب القرارات التي أصدرها المجلس حتى اللحظة، فسيلحظ أنها لم تولِ ملفي القضاء والنيابة إلا النزر اليسير من الاهتمام، إذ اقتصرت على إقالة النائب العام ونائبه، وإلغاء نيابة أمن الدولة، وتكليف أحد المحسوبين على المنظومة العدلية الإنقاذية بتولي ملف مكافحة الفساد، أما ملف القضاء فبقي على حاله، ولم يمس حتى اللحظة. *طبيعي جداً أن يثير ذلك البُطء حفيظة المكوِّنات الثورية، ويستفزها ليرفع معدلات انتقادها للمجلس، سيما وأن من تم تكليفه بتولي ملاحقة قتلة الشهداء وجد نفسه مضطراً إلى مخاطبة مدير جهاز الأمن، طالباً رفع الحصانة عن المتهمين بقتل الشهيد أحمد الخير رحمه الله، وهم معلومون بالاسم. *من الغريب أن يبقى قانون الأمن سارياً بكامل مواده، بعد مرور أكثر من أسبوعين على سقوط نظام الإنقاذ، ومن الموجع حقاً أن يظل قتلة الشهداء أحراراً طلقاء، لمجرد أن المجلس العسكري لا يريد تعطيل مادة معيبة في قانون الأمن، بعد أن عطّل العمل بالدستور الذي يحكم كل قوانين السودان. *ما الصعب في تعطيل المادة التي تربط ملاحقة المتهمين المنتمين لجهاز الأمن بموافقة مدير الجهاز على ضبطهم وإحضارهم للمثول أمام العدالة؟ *أحمد الخير لم يكن الوحيد الذي قدم روحه فداءً للوطن خلال الثورة المجيدة، ومن الطبيعي أن يثير بطء المجلس العسكري في ملاحقة القتلة حفيظة القوى الثورية، التي ترى في بقاء المكونات العدلية الإنقاذية على حالها أكبر وأخطر مهدد للثورة نفسها. *إذا وجدنا العذر لأنصار الإنقاذ، لأنهم مضطرون إلى ركوب الصعب بدعمهم للمجلس العسكري، فكيف نعذر رفاق البرهان على تلكوئهم في تحريك أهم وأخطر ملفات الثورة؟ *كيف نعفيهم من مسؤولية ترك قتلة الشهداء، مهند ومعاوية بشير وعبد العظيم ومحجوب ود. بابكر وطارق وأحمد وماكور وعصام ورفاقهم الأماجد أحراراً طلقاء حتى اللحظة؟ *التنازع السياسي المحموم على السلطة لا يعنينا، سواء أبقي المجلس العسكري على حاله أو تم تحويله إلى مجلسٍ سياديٍ، المهم عندنا وعند كل أهل السودان أن لا يفلت أي قاتل بجرمه، وأن يتم ضبط كل من سفكوا الدماء، وأن تشمل الملاحقة من أصدروا الأوامر، ووجهوا باستخدام العنف المفرط في مواجهة متظاهرين عُزَّل، خرجوا يطلبون الحرية، وعادوا إلى ذويهم قتلى وجرحى، ليمهدوا بدمائهم الزكية طريق الحرية والسلام والعدالة، لواحدة من أعظم الثورات في تاريخ البشرية.