} لكل زمان رجال، ولكل جيل تاريخ، ولكل عهد بطولات، ولكل أحداث مواقع، ولكل مواقف وقفات، ولكل عظات عبر، ولكل مقال أسباب. وللسودان بعض من هذه المسميات، لأن فيه قصص لم تحكَ، وبطولات لم تؤرخ، وإن وجدنا شذرات وخواطر، وذكريات تروي وتسطر لمحات من تاريخنا، سواء لشخصيات اجتماعية أو وطنية، أو سياسية أو مؤسسات قومية أو حركات دعوية أو منظمات خيرية أو أحزاب وطنية، أو هيئات إسلامية، أو صروح تعليمية. ومن هذا المنطلق أكتب، ومن الصعب على الإنسان أن يكتب عن أقرب الناس إليه، خاصة لو كان عماً حسباً ونسباً ولحماً ودماً ورحماً. } كان الشيخ "يس عمر الإمام" من أولئك الرجال الأفذاذ والدعاة المجاهدين والمعلمين المربين والوطنيين الإسلاميين منذ نشأته وإبان فتوته وشبابه، وقد تربى في كنف الحافظ للقرآن الكريم، يعيش من كسب يده (جلاداً) للعناقريب في سوق أم درمان، وهو أول إمام لجامع أم درمان الكبير، ومازالت الإمامة في هذه الأسرة حتى اليوم والحمد لله على ذلك. وأمه تُسمى "بخيتة"، وقد كانت (بخيتة) في أولادها فلذات أكبادها وقد صاروا علماء ومعلمين ورموزاً لا تذكر أم درمان إلا ويذكرون، فقد كانت عائلة "عمر الإمام" معلماً من معالم أم درمان ودارهم قبلة لطلاب العلم وأبناء السبيل، يجدون فيها المأوى والمسكن والمأكل والمشرب حتى سُميت ب(الصُفة) كما كانت في عهد النبوة. } كان الشيخ "يس عمر الإمام" يتمتع بصفات قلما توجد في كثير من الإخوان، فهو مصادم منافح محاور مجادل بالتي هي أحسن، ويتميز بصفة الشجاعة إذا تطلب الموقف ذلك، وكالأسد الهصور تهابه وتخافه قلوب المرجفين وتحبه وتوقره قلوب المحبين، ولا يعرف المناورة ولا المخادعة، وديدنه الصراحة والوضوح.. يحمل العصا وما أدراك ما عصا عمي "يس عمر الإمام".. يتوكأ عليها وله فيها مآرب أخرى. } كان العم "يس" كإخوته جوّاداً كريماً سمحاً مرحاً مداعباً فكهاً لماحاً فطناً، لم يكن ليناً فيعصر ولا جافاً فيكسر، كان شباب العائلة وأصحابهم ومعارفهم تهفو نفوسهم للعم "يس".. يقضون أمسياتهم ولياليهم معه، يداعب هذا ويعاتب ذاك ويتفقد الغائب، وهو وسطهم إذا رأيتهم بحالهم ذاك تحسبهم (أولاد دفعة)، جمعت بينهم فصول الدراسة و(الدافوري). فقد كان العم "يس" مع الشباب، كما مع الكهول، ولكنه يعطي كل سن مكانتها. كان منزله نزلاً وداره مسكناً، وبابه مفتوح يغشاه من يعرفه ومن لا يعرفه، فيجتمع عنده كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الحزبي والقبلي. وكانت له صداقات مع كل تلك الشخصيات (أنصاري، ختمي، اتحادي، بعثي، شيوعي، جمهوري، دنقلاوي، شايقي، حلفاوي).. فهو من دار جعل من غير تعصب ولا جهوية، يعطي كل من ماعونه، من غير تملق ولا رياء. } كان العم "يس" رأسمالياً بلا رأس مال، وثرياً بلا ثراء، وغنياً بلا متاع.. يعطي وينفق ويتصدق ويقضي حاجات السائلين والطارقين بابه بلا منٍ ولا أذى.. له عطايا يخرجها سنوياً وخاصة في رمضان لأصحاب الدخل المحدود والفقراء والمساكين ومن أسر الأخوان.. وممن رحل عائلهم إلى الدار الآخرة.. يتفقدهم ويسأل عنهم وعن حالهم ويرسل لهم (كيس الصائم) الذي كان يشرف عليه بنفسه. حتى نحن المغتربين من العائلة.. كنت عندما آتي للسودان في الإجازة والعطلة السنوية يناولني أبي أو أمي أو أحد إخوتي كيساً ويقول (هذا نصيبك من عمك "يس")، وكان لا ينسى تلك الأسر الإخوانية من الأضاحي.. إذ كان ابناه "عمار" و"مصعب" يطرقان أبوابهم ليلاً وهم في حيرة لا يعرفون من أين لهم ثمن الأضحية، فإذا بها بين أيديهم حية (تبعبع)!! } أما مواقفه الوطنية والسياسية والحركية فما أكثرها والحديث عنها يطول، وقد تحدث عنها الكثيرون في الصحف اليومية، سواء كُتاب الأعمدة أو غيرهم من السياسيين والصحافيين والكُتاب والشعراء.. } تحدثت في هذه السانحة عن جوانب اجتماعية وأسرية قد لا يعرفها الكثيرون.. وسأسرد موقفاً أختم به مقالي يبين مكانة هذه الأسرة وعراقتها وتدينها ومواقفها الوطنية والدينية والسياسية: } عند حل (الحزب الشيوعي)، كانت أول مظاهرة تخرج من جامع أم درمان الكبير عقب صلاة الجمعة، وكان يقودها العم المقرئ الشيخ "عوض عمر الإمام"، واتجهت صوب منزل الزعيم "إسماعيل الأزهري" الذي كان وقتها رئيس مجلس السيادة، وصعد العم "يس" في ظهر عربة وهو يهتف وينادي والكل يردد معه: (الشعب يريدك يا "إسماعيل") بدون ألقاب أو مسميات. وكان الذي بالداخل مع الوفد، يحاور "الأزهري"، والدي الشيخ "حامد عمر الإمام"، وعندما خرج الزعيم "الأزهري" - طيب الله ثراه.. فقد كان تقياً نقياً - صعد "عوض عمر الإمام" فوق السارية المطلة على الشارع، وقال لأزهري كلمات مازالت ترن في أذني حتى الآن، والكل يصغي لما يقول: (إذ لم تحل الجمعية التأسيسية الحزب الشيوعي، فسوف أقود المظاهرات)، ثم اتجهت المظاهرة وتلك الجماهير الحاشدة لمنزل السيد "الصادق المهدي" ب(الملازمين)، فصعد السيد "الصادق المهدي" ومعه العم الشيخ "عوض عمر"، على السور الخارجي للمنزل، وعند مخاطبة "الصادق" للجماهير التي كانت تهتف بحل (الحزب الشيوعي)، أسر إليه أحد الأنصار بأن الأنصار يذبحون الشيوعيين في أزقة وشوارع (بيت المال) التي كانت تُسمى (موسكو) وأحرقوا دارهم، فترجل السيد "الصادق" وقدم الشيخ "عوض عمر" لمخاطبة المتظاهرين. ولهذا فقد كان لأبناء "عمر الإمام" السبق في حل (الحزب الشيوعي)، ولا أدري هل هذه محمدة دينية أم مسبة ديمقراطية؟ والتاريخ لا يرحم كما يقال لأنه يفضح عمر الإنسان وإن حاول أن يخفيه لأن هذه المواقف كنت شاهداً عيان فيها، بل وحملني أبي على كتفه عند جلسة البرلمان الشهيرة والتي قدٌر فيها حل الحزب طرد نوابه من الجمعية التأسيسية. فيا لها من أيام ويا لهم من رجال، وما أجملها من مواقف، وما أجلها من أحداث. } وهكذا كان للأسرة دورها في الحياة السياسية والدينية والاجتماعية، وهكذا كانت أم درمان وستظل مأمناً ومسكناً وملاذاً وملجأً لكل تائه، وعابر سبيل وطالب علم. رحم الله العم "يس" وأشقاءه، وأن يثيبهم بقدر ما قدموا لهذا البلد وهذا الشعب، وأن يجعل الجنة مثواهم.