جلست معهما أمل أبو القاسم همست إلينا "يسرية" بصوت خافت ملؤه الحماس عقب خروج "عيساوي" من مكتبه بمباني (التلفزيون القومي) لأداء غرض ما: والله يا "أمل" الزول دا مظلوم ظلم الحسن والحسين، قدم عصارة جهده للتلفزيون والشعب، ولا أنسى دوره البطولي أيام انتفاضة أبريل سنة 1984م، وهو بعد طالب في كلية الموسيقى ومع ذلك لم يجد حظه الكافي من... ومن..."، أشياء كثيرة شرعت في ذكرها قطعتها عودة "عيساوي" لمكتبه محمل ب"جك" من عصير الليمون المثلج، وقبيل ذلك وأثناء تعدادها لمحاسنه قاطعتها إنت برضو ما مظلومة يا أستاذة، فردت بسرعة وهي ترفع يدها ياخ أنا خليني... قطع الهمس عودة المخرج الكبير ومدير القنوات المتخصصة الأستاذ "إسماعيل عيساوي" وبمعية رائدة الإعلام ملكة الشاشة في أزمان فائتة وإلى الآن الأستاذة "يسرية محمد الحسن"، قلبا خلال دردشة لم تخل من الدهشة قصص وحكايات عن أهم حقبة في تاريخ السودان الحديث، فترة انتفاضة أبريل وسقوط مايو كواليس لم يطلع عليها الكثيرون ظلت حبيسة فؤادهم. الصدفة فقط دفعت بإحداهما للتطرق إليها، فكانت رأس الخيط الذي قاد لجبال من البطولات خاضاها معاً متراساً قمتها الأستاذ "عيساوي"... إذن ماذا جرى في حوش التلفزيون القومي القناة الوحيدة في تلك الفترة يوم الانتفاضة؟ كيف تصدى "عيساوي" لجموع الشيوعيين ومنعهم تلاوة بيانهم حد الاشتباك بالأيدي؟ وكيف قضت "يسرية" يومها حبيسة الأستوديو حتى المساء؟ وماذا عن أسطوانات المسيرة التي نظمها طلاب الجامعة الشيوعيون عقب تسلم السلطة؟ وكيف تم إعدامها؟... كل ذلك وغيره من الكثير المثير خلال الفضفضة المقبلة. ابتدرت استحضار الذكريات الأستاذة "يسرية" بقولها: أتذكر في ذاك اليوم وأنا أتجول في حوش التلفزيون ونحن بعد مذيعين صغار نقدم (جريدة المساء) وغيرها، و"عيساوي" أيضاً كان مخرجاً صغيراً أظنه ما زال يدرس في المعهد لأنه كان مخرجاً في التلفزيون ويدرس في آن. فكنا صغاراً، وأنا بالحوش طفق يناديني يا يسرية يا يسرية.. والحوش مقلوب وممتلئ بالشيوعيين زملائنا في الإذاعة والتلفزيون، فضلاً عن آخرين من الخارج ووقتها كانت الفوضى ضاربة بأطنابها لأن المشير "سوار الذهب" لم يذع البيان بعد ومترددين في إذاعته.. والبلد تشهد فوضى وإضرابات والرؤية غير واضحة البتة. على خلفية نداء "عيساوي" ذهبت إليه فامسكني من يدي وشدني للداخل، سألته في شنو وماشين وين؟ قادني بسرعة نحو أستوديو البث المباشر أدخلني وأجلسني قبالة تربيزة التقديم، وبلهجة آمرة حادة قال لي: شوفي اجلسي هنا وحذارك أن تتحركي من هذا الكرسي نهائياً، وإذا جاءك أي شخص هنا في أثناء غيابي لا تتعاملي معه ولا تفتحي (المايك) لأي كائن كان.. وكان وقتها يعد في ترتيبات البث بإحضاره الأناشيد الوطنية من المكتبة. وللصراحة لم أكن أعلم بما يدور حولي، لكن كنت أشاهد الأستاذ الراحل "عبدا لعزيز العميري" ومعه مجموعة كبيرة من زملائنا الذين نعلم أنهم شيوعيون وآخرون من الخارج وكانوا يحملون بياناً. وزادت "يسرية": أثناء جلوسي خلف (المايك) حضرني المرحوم "عميري" يحمل علماً أحمر كبير جداً ومن خلفه الجماعة واقتحموا الأستوديو ضرب التربيزة بيده، وطلب مني التنحي لأن لديهم بيان يودون إذاعته، قلت له جداً فقط يرجع "عيساوي"، فكرر طلبه وكررت رفضي وأخبرته بأمر "عيساوي" ومنعي التحرك وقلت له لما يرجع أخبره برغبته ودعه يذيع لك. فظلوا منتظرين حتى عودته وبيدهم علمهم وفي نيتهم وضعه على التربيزة أثناء إذاعة البيان. وبالفعل حضر "عيساوي" وقلل من استعجالهم، وقال موجهاً حديثه ل"العميري" وسط ضجيجهم الذي ملأ جنبات الأستوديو.. ليس لدي مانع في إذاعة بيانكم ووضع علمكم. فقط انتظروا قليلاً لأن لدى تعليمات بتقديم فقرتين، وبعدها أفسح لكم المجال في الأستوديو. وطلب منهم البقاء خارجاً لفترة قليلة، فتناكفوا معه حول الموضوع حتى استطاع إخراجهم من الأستوديو، ثم عاد إليّ مجدداً وبرفقته مصورين أدخلهم معي، وقال بلهجة آمرة: (شوفوا أنا ح أقفلكم بالمفتاح وأنا طالع وانتوا ما تطلعوا حتى أخرجكم أنا، والجماعة ديل شيوعيين وجايبين بيان للحزب الشيوعي وعايزين يذيعوه، وأنا أخرجت المنفذ وسأعمل بدلاً عنه انتوا اليوم معتقلين هنا حتى تتضح الرؤية)، طبعاً وبما أنه المخرج فما علينا إلا تنفيذ تعليماته. قالت "يسرية": بدأ "عيساوي" وبحسب مشاهدتنا له في (المونتير) ببثه أناشيد وطنية مثل (عشت يا سوداني) و(وطن الجدود) وغيرهما، كل ذلك ونحن في معتقلنا نعاني الجوع والعطش حتى المساء تحت طرقات الشيوعيين للأبواب. ومع ذلك كان "عيساوي" ينظر إلينا من خلف الزجاج وهو يضحك، ثم لا ينفك يوجه تعليماته عبر المصور بأن افعلي كذا وقولي كذا وكلها كانت تطمينات للشعب، وأن ادخل المادة القادمة أغنية أو كذا حتى وقت متأخر من الليل، فجاءنا "عيساوي" وهو يضحك وقال: معليش يا جماعة أنتم وقفتم معي وهي وقفة سيشهد لكم بها التاريخ لأنها بطولية.. والجماعة ديل حاملين معهم بيان للحزب الشيوعي يريدون إذاعته، وإن حدث ذلك فستكون كارثة بكل المقاييس، وشكرنا جداً على ذلك، وعندما خرجنا كانت الساعة التاسعة مساء تقريباً... وأردفت هذا ما أذكره لأ"عيساوي" الذي كان وقتها شاباً صغيراً. استمع الأستاذ المخرج "إسماعيل عيساوي" لحديث الأستاذة "يسرية" في صمت ثم عقب عليه مضيفاً: بالتحديد وفي يوم الانتفاضة 4 أبريل ربنا يديها العافية زميلتنا "يسرية" وهي للحقيقة قامت بدور لامرأة سودانية ذكرتنا ب"مهيرة بت عبود"، وذكرتنا كيف تكون المرأة السودانية في الأوقات العصيبة ولم تك يومها مذيعة فقط لأنها في ذاك اليوم الأخوان إياهم هجموا عليها في ظل غياب تام لرجال الأمن وجماهير كبيرة كانت تجوب الشارع دخلت التلفزيون، والشارع يومها كان رهيباً وعصيباً، وهنالك من ظهر من الزملاء وتلقى علقة، وتضارب آخرون وطردوا، كل ذلك داخل حوش التلفزيون، كانت المشاكل فيه كثيرة لأنه كان جهاز الدولة الوحيد. حتى البيان الصادر من المشير "سوار الدهب" كان قد أحضر الإذاعة على شريط كاسيت.. وكان البيان الأول لكن لو يتذكر المواطنون ليس هناك بيان مصور له، فالتلفزيون كان يفتقد لكيفية البدايات والناس كلها في الشوارع ولم يتابع الكثيرون الإذاعة، لذا فإن هناك من سولت له نفسه سرقة هذه الثورة، وإن من قام بكل هذا العمل إذا كانوا نقابات أو أفراد أو غيره كانوا يريدون إظهار انطباع أن اليسار والشيوعيين هم من قاموا بالانتفاضة، وفعلاً الاختطاف لم يستمر ليوم واحد، بل عدد من الأيام وضغط اليسار ضغطاً شديداً وشمل ضغطه المجلس العسكري الذي كان على رأسه "سوار الدهب". ونحن كنا الأكثر إحساساً وقرباً منها، وهذا الضغط من أجل الاستيلاء على التلفزيون. وضغطهم مصاحب بعنف حد اشتباكي معهم بالأيدي وسط ارتفاع أصواتهم رغم أنهم كثر، بينما كنت أنا وحدي من قاومهم ومنعهم إذاعة البيان. "يسرية": وكما أخبرتكم سابقاً ورغم أن "عيساوي" كان وقتها صغير السن، إلا أنه كان يتمتع بشخصية قوية حتى أننا في الحوش كنا نخافه ونهابه مخرج قوي حتى الزملاء الشيوعيين الذين كلفوا بإذاعة البيان يخشون "عيساوي"، ولولا ذلك لاختطفت الثورة وامتلأت البلد بالدماء حد الركب. وبعد أن كبرت واستوعبت المسألة تماماً والتي لم أك وقتها أقييمها. "عيساوي"... سألناه عن الزمان الذي أحضر فيه الخطاب الرسمي والحقيقي نعم سأطلعكم على الأمر.. حقيقة بعدما اطمأننا على الوضع داخل التلفزيون حضر عدد من المخرجين منهم الأخ الزميل "مطر" وعدد من الزملاء خرجنا وزعنا الكاميرات على المناطق "مطر" ومعه مجموعة كلفناهم ببحري، عدد آخر من المخرجين وجهناه نحو أم درمان، كنا بصدد التغطية والتوثيق للحدث الكبير والمهم.. من جانبي أخذت كاميرا وتوجهت نحو القيادة العامة بالكاميرا، وكانت الأولى التي تدخل القيادة ومن ثم ولجت مكتب "سوار الدهب" ونقلت البيان الثاني تلفزيون، ولو يتذكر الناس ويتذكر "سوار الدهب" أيضاً وكل قيادات المجلس العسكري دخلنا بكاميرتنا ووجدت في ذاك اليوم الأخ "مصطفى أبو العزائم" والأخ " فتح الرحمن النحاس"، ونحن جالسين دخل الأستاذ الراحل "حسن ساتي".. تم استدعاني داخل المكتب من قبل بعض أعضاء المجلس العسكري، وطلبوا مني بطريقة لطيفة أن أبلغ "حسن ساتي" بأنه غير مرغوب فيه الآن وعليه المغادرة، أقول ذلك شهادة للتاريخ، لأن صحيفة (الأيام) قبل يوم كانت قد غطت الأحداث وموقفها يميل لضدية الشعب ومؤازرة "النميري"، وكان على رأس ذلك رئيس التحرير. وزاد "عيساوي" أول مؤتمر صحفي انعقد مع "سوار الدهب" في ساعات متأخرة من المساء أجراه تلفزيون السودان، واجتمع بنا في مؤتمر مصغر تحدث عن تسليمهم السلطة وغيرها، وكان من الأهمية بمكان أن تم بثه في أخبار العاشرة.. فالتلفزيون كان موجوداً باستمرار وصان حقوق الشعب السوداني كلها، ووقف مع المجلس العسكري في قيادة البلد في تلك الفترة العصيبة في خضم توصيله القيادة لبر الأمان.. حتى المسألة امتدت وأحضر المجلس العسكري ضابط جيش موجود ولصيق لشهر أو شهرين تقريباً. وأردف: حاول بعض الشيوعيين، وفي تلك الفترة كانت هناك مسيرة ضخمة لحل جهاز الأمن، طلعت من نادي الأساتذة بجامعة الخرطوم حتى يحل الجهاز من جهة ومن جهة ضغط من اليسار السوداني.. ومن الأشياء التي لا يعرفها الكثير من السودانيين أنه تسربت كاميرات من التلفزيون وصورت المسيرة، لكن بحمد لله أن حضرت في الوقت المناسب عندما وجدتهم يعملون على منتجتها، وبسرعة ذهبت واستعديت ضابط الجيش وأخذنا هذه الأجهزة وأعدمناها، وحتى اللحظة لا يعرف الناس بتحرك هذه المسيرة لسبب واحد أن المسيرة كانت لحل الجهاز، ونحن لم نكن نرغب في ضغط المجلس العسكري رغم أن الجهاز تم حله في الأخير.. لكن الضغط الذي كانت ستعمله سياسياً لأنها كانت أيضاً جلها من الشيوعيين المحملين بالأعلام الحمراء، لكن بحمد الله لم نسمح ببثها والاطلاع عليها بإعدامنا الشرائط. قاطعته "يسرية" أذكر تماماً النقاش الحاد الذي خاضه معك المخرجون الذين كانوا بصدد بث المسيرة وكنت شاهدة على ذلك، وأيضاً كانوا مجموعة كبيرة وهو فرد واحد حتى كاد النقاش أن يفضي لاشتباك بالأيدي، وكان يقول لهم أثناء النقاش انتوا ناس عاوزين البلد تغرق في فوضى ودماء. سألناهم لماذا أهدرتم حقكم وأنتم قمتم وقدمتم دوراً بطولياً.. رد "عيساوي": والله لولا أن أثارت الموضوع "يسرية" لما تطرقت أو تحدثت في هذا الموضوع، نحن لا نبحث عن بطولات لأننا نعتبر أن التلفزيون واجبنا المحافظة على قوميته، فالتلفزيون قومي لا يتبع لفئة أو جهة والسودان لا يلتئم إلا بقبائله وناسه الذين يجب أن يكونوا في بوتقة واحدة، فقومية هذا الجهاز من قومية البلد وهذا ما تعلمناه من التلفزيون نفسه، وما نرجوه لاحقاً أن يكون التلفزيون قومياً ومفتوحاً بحرية كبيرة ووضوح. والناس تخلي بالها من الإذاعة والتلفزيون لأنهما البوتقة الجامعة لكل السودان، وصمام الأمان وإن شاء الله نتعلم من الموقف دا حاجات كثيرة، وتأمينه بالأجهزة الأمنية لأنه عندما حدثت هذه المواقف لم يكن ولا فرد أمن ولا شرطي، فقط كان معنا الله سبحانه وتعالى. "يسرية": لا تنسى يا "عيساوي" أن نقابة التلفزيون كان يسيطر عليها الشيوعيون وأغلبيتهم زملاء "عيساوي"، لذلك كانوا عايزين يأكلوه عدييل عندما خبأ الأشرطة وهم لا ينفكون يطالبونه بإخراجها. هل ثمة مواقف تحفظونها أو خضتموها إبان المحاولات الانقلابية الفاشلة التي قادها البعض أيام حكم النميري؟ سؤال ألقته عليهما (المجهر) فرد "عيساوي" بلا، لكنه عاد واستدرك موقفاً حدث له قبيل الانتفاضة مع دكتور "فيصل أحمد سعد"، فقال وهو يبتسم ابتسامة عريضة، كنا في معهد الموسيقى والمسرح ومقره (قصر الشباب والأطفال)، ونحن هناك حضرت المسيرة الأولى قبل يوم والتي قام بها طلاب الجامعة الإسلامية لكنها لم تجد سنداً من الشارع لأن كل الناس كانوا مرتبكين ويتساءلون عن ما يحدث، لكنها وجدت السند من معهد (الموسيقى والمسرح)، فخرج معهم الطلبة جميعهم بعد أن زودوهم بالماء ، ثم دارت ورجعت بشارع الأربعين، وللحقيقة انخرطنا في المسيرة، ولما رجعنا المعهد تتبعنا جهاز أمن نميري أنا والأخ "فيصل" مساء، وأذكر أن الخوف دخل قلبه، وعند المساء وفي طريقنا للداخلية ب(حي بانت) تتبعونا بعربة، وعندما وصلنا أحد الميادين لم ينجينا سواء إطلاق سيقاننا للريح. قبل حراك الانتفاضة كانت هناك بعض المواقف الخفيفة واللطيفة وأستاذة "يسرية" ربما كانت لها مواقف مع ضربة ليبيا للإذاعة بفعل طائرة القذافي.
