كنا على وشك تحديد موعد لنشاط جامعي، وهو احتفاء ببعض المبرزين. قررنا أن يكون الميعاد هو يوم الخميس 21 أكتوبر.. قلت لزميلتي البحرينية: «هل اليوم مناسب بالنسبة لك؟»، رددت بهمس بريء: «واااحد وعشرييين أكتوووبر».. ثم رفعت رأسها والدهشة بعينيها تلوح في الأفق وهي ترفع حاجبها الأيسر قليلاً وتهز رأسها وتومئ بعض الشيء ثم تفاجئني بقولها: «هل تعلم أن واحداً وعشرين أكتوبر هذا كانوا يدرسونه لنا في المدارس هنا في البحرين؟ ألم تقم في هذا اليوم لديكم في السودان ثورة؟!».. ثم ابتسمت وواصلت قائلة: «لقد كنا ندرس تاريخ السودان ومصر»، ثم صارت تستعيد من ذاكرتها ما علق من معرفة بتاريخ السودان الذي بالتأكيد تم حذفه الآن من مناهجهم - ومعهم ألف حق - فالتاريخ الذي لا يصنع الحاضر ويؤسس لمستقبل؛ لا يستحق أن يُقرأ أو يدرّس، بالإضافة إلى أنه تاريخ أمة نزعت مجدها من وجدان أبنائها وليس من كُتب تاريخها فقط. تمر على ذاكرة بعضنا الآن ملامح ثورة عظيمة قامت من أجل الوحدة والبناء والثقافة ونشرت فكراً أصيلاً بين الشعوب، وكانت قدوة حضارية لعالم يعيش قروناً وسطى من التخلف الإنساني، وكنا نرفع رأسنا عالياً بين الأمم ونحن نردد رائعة شاعرنا العظيم محمد المكي إبراهيم: اسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيماناً وبشرى وعلى الغابة والصحراء يلتف وشاحاً وبأيدينا توهجت ضياءً وسلاحاً فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبراً سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرة ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسماً وذكراً لقد هبت تلك الثورة الرائدة من أجل وطن واحد، وبحزن عميق تمر ذكراها الآن والوطن على حافة الانهيار بسبب عشق ساستنا للسلطة والثروة وزينة الحياة الدنيا التي خرجوا لأجلها وناضلوا وجاهدوا في سبيلها سلطة وجاهاً سيحاسبهم المولى عز وجل عليه إن شاء تعالى لأنهم باسمه اختاروا الفانية عملاً والآخرة شعاراً فانتهى الأمر بتوهانهم وتخبطهم في ما رسموه من سياسات أطرت لكل أنواع الفساد الذي فاق تصور العقل البشري وسيقود حتماً إلى ما لا تحمد عقباه (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ – صدق الله العظيم). ولإنْ أحبنا الله ونحن في هذه الأيام العصيبة فسيجعل هدى أكتوبر سبيلاً للخروج من مأزق الوطن الذي أدخلنا إليه ساستنا برؤيتهم القاصرة منذ أمد طويل ونسأله تعالى أن يهديهم لما فيه مصلحة البلاد من وحدة وإخاء ومحبة لنعود ونغني من جديد: باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني الحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي باسمك الشعب انتصر حائط السجن انكسر والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي أعود وأقول إن الأمم تفخر بتاريخها وتعتز بحاضرها وبما أنجزته من رفاهية، وتنظر برويّة وتفاؤل وبِشرٍ معنوي وحسي لمستقبلها، أما نحن فنطمس تاريخنا ونبكي عليه في ذات الوقت لأن حاضرنا عذاب وضياع وفرقة ودمار، ومستقبلنا لا يشكل هاجساً لأحد فهو لا يوجد في مفكرة الساسة والمخططين الإستراتيجيين. أطفالنا وأحفادنا لهم الله، فالشيء الأهم هو كيف يتقلد هؤلاء الساسة مناصب الحكم وكيف يحافظون عليها، أما في ما عدا ذلك فهو ليس من ضمن هواجسهم ولا في دفاتر أحلامهم. في طريقي إلى عيادتي بالمستشفى؛ التقيت بطبيب سوري وهو صديق عزيز ويحب السودان وأهله فرويت له تلك القصة فابتسم قائلاً: «هل تعلم أننا في سوريا كنا نستورد الملابس من السودان؟ وأن من يلبس قميصاً سودانياً ماركة «أسندكو» كان يعتبر أرستقراطياً»!!.. نظرت إليه بعجب وحسرة فقال: «صدقني والله»!! عندها تذكرت صديقتي العزيزة الأستاذة الدكتورة «عائشة موتالا» من جنوب أفريقيا حين روت لي الكثير عن عظمة السودان وكيف كانوا يأتون بالخبرات السودانية لإرساء قواعد الخدمة المدنية هناك في تلك الدولة الحضارية. انظروا أين نحن الآن؟ سحقنا تاريخنا لأن الساسة يشطبون التاريخ ويعيدون صياغته بما يمجدهم ويهزمنا ويهزم الوطن بداخلنا. فلمن يدّرس مثل هذا التاريخ المحوّر؟ ولمن يصبح عبرة وقدوة حسنة؟! لقد أصبح تاريخاً دامياً ومليئاً بالحقد والكراهية والكذب والمؤامرات والتشهير وقتل الإبداع والمبدعين. فالثورات العملاقة مثل ثورة أكتوبر التي كانت تزين كتب التاريخ حتى لساكني الخليج قد شطبت من ذاكرة كل التواريخ وتحولت إلى حائط مبكى لمن يهمه الأمر..! ودولة مثل سوريا كانت تتباهى بصناعتنا، ها نحن نتباهى الآن بحلوياتها ويعيش أبناؤنا مشردين على أرصفتها. أما خدمتنا المدنية التي كانت مثالاً يحتذى به على الأقل في مصاف الدول الأفريقية فأين هي الآن؟ أقول لكم أين.. انظروا إليها عند الساعة العاشرة صباحاً – في غير رمضان – ستجدون صحن الفول والزيت والبصل في طاولة «الباشكاتب» والجميع ينتظر «الفسيخ» الذي أتت به الموظفة الفلانية كتحلية بعد الفول!!. ووالله ووالله لقد رأيت بعيني موظفة (تمصمص) يديها ببقية الماء الذي شربت منه وفي أرضية المكتب وهي مسؤولة نظامية في الدولة! هذه خواطر عابرة فالكثير من أمثلة التدهور في كل المرافق لا تنتهي لأن وطننا نحرناه بأيدينا وأيدي ساستنا وبمنافعنا الشخصية الضيقة. وطني الآن أصبح مرتعاً للصوص «الشرفاء» ممن نمجدهم حين يأكلون مال اليتيم وينهبون الناس ويجلسون في «سجن الشيكات» ينهمون أعمدة الطعام الدسم ويلعبون «الكونكان» والأموال التي سرقوها تدار بالخارج. وطني لم يعد جميلاً ولا مشرّفاً لأحد فالدولة لا ترسم مستقبل الطفل فيه حين تتجاوز رعايته وعلاجه وحقه في التعليم واللعب والبراءة، وحين عطارة الغبش لعلاج الإيدز والسرطان والسكري والرطوبة والضغط تكون تجارةً رابحة! وفي هذا الشأن كتب لي الصديق «بلدي يا حبوب» ذات يوم رسالة طريفة قال فيها: وهذا غير العيادات المتحركة التي قد تكون الكشّات قد منعتها من الوقوف بالقرب من ميدان الأممالمتحدة وشوارع أخرى. وطبعاً العيادات عبارة عن عربة بوكس محملة بأكياس الدواء لكل داء والأغرب استخدام المايكرفون للدعاية. أما على مستوى سوق «ليبيا» وسوق «أم دفسو» وسوق «أبوزيد» وسوق «ستة» وسوق «اطلع برة» وسوق «لو أنت راجل ادخل» وسوق «أنجولا» وسوق «نحن كده» فالأمر هناك مختلف، حيث تجد العجب.. بروفات عديل فى الشعوذة. قبل الكشف لازم تصل بتاع (الرمل) علشان يحدد ليك مرضك ويحولك إلى (الوداعية) علشان تعمل ليك تحليل شامل ولو كنت سعيد الحظ ما تقوم الوداعية تظهّر ليك مرض جديد وفي هذه الحالة ما عليك إلا الرجوع إلى (رمالي)، بس الدور ده (رملته بيضاء ما حمراء) وبعد ما تتأكد من التحاليل تتوجه لمقابلة (كبيرهم) وهنا مربط الفرس. يا كتب ليك علاج بروشتة عبارة عن حبة بخرات وموية محاية، لكن المشكلة تكون في جلسات.. والفيلم ما في الجلسة لأن الهم الأكبر هو مطالب الجماعة: ديك أسود بأحمر، تيس قرونه دفنانة جو جسمه، دجاجة قاطعة أو غراب أعور.. وما خفي كان أعظم. فلمن أعزائي نكتب مثل هذا التاريخ.. لمن؟؟!! { مدخل للخروج: كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل.. كان خلف الصبر والأحزان يحيا صامداً منتظراً حتى إذا الصبح أطل.. أشعل التاريخ ناراً واشتعل.. كان أكتوبر في نهضتنا الأولى مع المك النمر.. كان أسياف العشر.. ومع ألماظ البطل.. وبجنب القرشي حين دعاه القرشي حتى انتصر. معز – البحرين عكس الريح [email protected]