إنَّ دقَّات ساعة الحائط تقدم لك زمناً مُزيَّفاً ،ابحث عن زمنك الحقيقي في دقَّاتِ قلبِك ،ونَبْضِ إحساسِك ،، كل شيء في الدنيا يجري ويلهث ،ظواهر الطبيعة كلها عبارة عن حركة ،الكهرباء حركة ،والصوت حركة ،والضوء حركة ،والحرارة حركة ،والكون كله يتمدد مثل فقاعة من الصابون وينفجر في كل قطر من الفضاء ،، المادة في حالة انتشار وذبذبة وحركة ولهذا يقول آينشتين إن لها بعدا رابعا غير الأبعاد الثلاثة المعروفة ،هذا البعد هو الزمن ، أو الزمن الملتصق بالمكان ويسميه (الزمكان) ،، ولكن ما الزمن ؟ هل هو دقَّات ساعة الجامعة ،والنتيجة المعلقة بالحائط والتقويم الفلكي بالفصول والأيام ؟ إننا مازلنا نذكر كلمات المراقب ونحن نؤدي الإمتحان في آخر كل سنة : باقي على الزمن نصف ساعة ،، نذكر الرجفة التي كنا نحس بها ونحن ننظر إلى ورقة الإجابة وإلى ورقة الأسئلة وإلى الساعة في يد المراقب ،وإلى شفتيه وهما تنطقان : باقي على الزمن نصف ساعة،، كأنه ينطق حُكماً بالإعدام أو حُكماً بالإفراج ،، كان نصف الساعة عند بعضنا قصير جدا ،، أقصر من نصف دقيقة ،لأن ورقة الإجابة ما زالت بيضاء أمامه ،ولأنه مازال يبحث ،ويهرش في رأسه ،،وكان عند بعضنا الآخر طويلا مُمِلاً أطول من نصف يوم لأنه قد انتهى من الإجابة ،، كانت الساعة في يد المراقب تشير إلى زمن واحد ،ولكن كلا منا كان له زمن خاص به ،، كان معيار الدقائق عند كل منا يختلف عن الآخر ،، وهذا هو مفتاح اللغز ،، عواطفنا واهتماماتنا هي الساعة الحقيقة التي تضبط الزمن وتطيله أو تقصره ،، أفراحنا تجعل ساعاتنا لحظات ، وآلامنا تجعل لحظاتنا طويلة مريرة ثقيلة مثل السنين وأطول ،، إحساسنا بالسرعة والبطء ليس مصدره ساعة الحائط ولكن مصدره الحقيقي الشعور داخلنا ،، إن حياتنا لحظة طويلة مستمرة يصاحبها إحساس مستمر بالحضور ونحن نتعرف على الماضي من خلال هذا الحاضر ،، فحينما نعيش في إحساس بالتذكر نسميه ماضياً ،وحينما نعيش في إحساس بالتوقع نسميه مستقبلاً ،ولكن كل هذه الإحساسات هي حاضر ، والفواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل فواصل وهمية لأن اللحظات الثلاث يتداخل بعضها في بعض كما يتداخل الليل والنهار عند الأفق ،، والذي يقوم بتعيين اللحظة في الشعور هو الإنتباه ،، الإنتباه هو الذي يضع خطاً تحت بعض مشاعرنا وإحساساتنا فيخيل لنا أننا وقفنا لحظة والحقيقة أنه لا وقوف أبداً ،، وإنما نحن نعيش في حالة تدفق داخلي مستمر أبدا ودائما ،، إن العالم داخلنا يختلف كثيرا عن العالم خارجنا ، إن العالم خارجنا متعدد منقسم إلى أجزاء منفصلة متجاورة في المكان يمكن أن نشاهد فيه وحدات متكررة ،والعالم داخلنا شيء آخر بالمرة ،، إنه تدفق لا تتشابه فيه لحظة بأخرى ولا يتكرر فيه احساس واحد مرتين ولا تتجاور لحظاته وإنما تتتابع وتتلاحق وتتداخل في وحدة غير قابلة للقسمة هي حياتنا ،، وبهذا يكون هناك زمانان ، زمن نراه من الخارج على هيئة شروق وغروب وعصر وظهر وساعات ودقائق ،،وزمن اخر نشعر به من الداخل على شكل تدفق يتصف بالدوام والإستمرار والإتصال ،، ونحن نرى الزمن الخارجي بالعقل وندركه بالتحليل والقياس والحساب ونعبر عنه بواسطة الأرقام ،،وندرك الزمن الداخلي مباشرة وبدون واسطة على شكل مكاشفة داخلية لكياننا ،لذلك نقول عن الزمن الداخلي إنه الزمن الحقيقي لأن الحقيقة تطالعنا فيه عارية بدون وساطة وبدون رموز ،،وهذا النوع من الإحساس يشبه إحساسنا بالحركة ،، حينما نحرك ذراعنا ،فنحس بأننا نحركها إلى فوق بدون حاجة إلى أن نراها ،لأننا نحس بهذه الحركة من الداخل مباشرة بدون وساطة الرؤية ،، بينما يحتاج الذي يشاهدنا من الخارج أن يرى حركات ذراعنا بعينيه ويتبعها ويحللها بعقله ليقول إننا نحرك ذراعنا إلى فوق ،ومعرفتنا نحن أرقى من معرفته لأننا نعاين الحقيقة مباشرة ، وبهذه المعرفة اكتشفنا الزمن ،زمننا الحقيقي ،،ولكننا لا نعيش حياتنا كلها في الزمن الحقيقي لأننا لا نعيش في نفوسنا كل الوقت ،وإنما نعيش في مجتمع ، نخرج ونختلط بالناس ونتبادل المنفعة ونتعامل ونتكلم ونأخذ ونعطي ،، ولهذا لا نجد مفراً من الخضوع للزمن الآخر ،زمن الساعات فنتقيد بالمواعيد ونرتبط بالأمكنة ،، ونبحث عن الأشياء المشتركة بيننا لنتفاهم ،وفي أثناء بحثنا عن الأشياء المشتركة تضيع منا الأشياء الأصيلة ،، العرف والتقاليد والأفكار الجاهزة تطمس الأشياء المبتكرة فينا وتطمس الذات العميقة التي تحتوي على سرَّنا وحقيقتنا ،، ونمضي في زحام الناس وقد لبسنا لهم نفسا مستعارة من التقاليد والعادات لنعجبهم ،، وتتكون عندنا بمضي الزمن ذات اجتماعية تعيش بأفكار جاهزة وعادات وراثية ورغبات عامة لا شخصية ،، وهذه الذات سطحية ثرثارة تقضي وقتها في التعازي والتهاني والمجاملات والمعايدات والسخافات وتنفق حياتها في علاقات سطحية تشبه المواصلات المادية التي توصل من الباب إلى الباب ولا توصل من القلب إلى القلب ،وهذه الذات التافهة هي غير الذات العميقة التي نغوص إليها في ساعات وحدتنا ونكتشف فيها أنفسنا ونتعرف على وجوهنا الحقيقية ،، إنها ذات جامدة مثل الجسد تحكمها الغرائز والضرورات الإجتماعية ، وهي تشبه المرحاض النفساني نُفرِزُ فيه كسلنا وضيقنا ومللنا ونقتل فيه وقتنا بإنشغالات رخيصة تافهة مثل قزقزة اللب ولعب الطاولة ،ونحن نتأرجح في حياتنا بين هذه الذات السطحية وبين الذات العميقة ،،نهبط مرة ونعلو مرة ،، نعيش في زمن الساعات لفترة طويلة من يومنا في وظائف وأعمال آلية روتينية، ونعيش في لحظات قليلة متألقة في داخلنا في زمننا الحقيقي الجياش في لحظات قليلة متألقة في داخلنا في زمننا الحقيقي الجياش فنهتز بالنشوة ونشرق بالسعادة ونرتجف بالقلق ونمتلئ بالفضول واللذة ونعرف نفوسنا على حقيقتها وبكارتها ،، ونحن نكتشف هذه النفوس البكر في مغامرات قليلة ، نكتشفها لأول مرة في مغامرة الحب حينما نعثر على المرأة التي تَهُزُّ وجودنا ،وتخترقنا وتخترق عاداتنا وتفكيرنا وحياتنا وتقلبها رأساً على عقب ، فتبدو كأنها حياة جديدة عجيبة ،، ونكتشفها لثاني مرة في مغامرة الفن ،في لحظات الإلهام التي ينفتح فيها شعورنا على إدراك جديد وتصور جديد للدنيا ،،فنكتب أو نغني أو نرسم أو نقول شعراً ،،ونكتشفها لثالث مرة في مغامرة التأمل وفي الشعور العميق بالتدين ،في لحظة الجلاء الفكري والصوفي التي نضع يدنا فيها على حقيقة جديدة فينا أو في الناس حولنا أو في الدنيا ،، ونكتشفها لرابع مرة في المعمل ،في لحظة الإختراع التي نعثر فيها على سر من أسرار الطبيعة يبهرنا ويدهشنا ويصدمنا ،، كل هذه الإكتشافات تخرجنا من الزمن المبتذل المتكرر ،زمن الساعات ،وتنزل بنا إلى أعماقنا ،إلى زمننا الحقيقي حيث كل شيء جديد مبتكر ،، مدهش ،،جميل ،، باعث لأقصى اللذة والفضول ،، هنادي محمد عبد المجيد [email protected]