شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراجة من هيكل عظمي!
نشر في سودانيل يوم 18 - 08 - 2009


الإثنين
"تلتقي فراشات العالم كله، يوماً، برغبة متأججة عارمة للإجتماع حول شمعة. تذهب فراشة أولى إلى قصر بعيد، وتلمح داخله ضوء شمعة، فتعود لتروي ما رأت. لكن حكيم الفراشات الذي يرأس الإجتماع يقول إن ذلك لن يساعدهم في شيء. فراشة أخرى تمضي إلى حيث تمس أجنحتها لهب الشمعة التي تبقى متعالية، فتعود محروقة الأجنحة لتروي رحلتها. لكن حكيم الفراشات يقول لها إن روايتها ليست دقيقة. هنا تقوم فراشة ثالثة أسكرها الوجد، فتقفز بعنف في اللهب بأرجلها الخلفية، حتى تحمرُّ أطرافها وتصبح كاللهب! هنا يقول حكيم الفراشات الذي رأى كل شيء من بعد: لقد تعلمت تلك الفراشة كل ما كانت تريد معرفته، لكنها وحدها من يعلم ذلك، وهذا كل ما في الأمر"!
حكاية نقلها ثلاثة فرنسييين، في أحاديثهم حول اللامرئي، عن كتاب فريد الدين العطار (منطق الطير).
الكتابة ليست (نقل) حالات، إنما (ممارستها)، أو هي في المنتصف بين (النقل) و(الممارسة)، إنقساماً ثنائياً ضرورياً لإيجاد منطقة التنازع، المنطقة التي، عندما تصلها الكتابة، يختفي الصواب والخطأ! المنطقة التي كلها تجارب، والتي يضيف الجوع فيها، جوهرياً، نفس مقدار الشبع من المعرفة! المنطقة التي يكون فيها الخطأ منتجاً وخصباً كالصواب! دعونا لا نسرف في تعطيل الخلاصة، فالأمر، ببساطة، أن هذه المنطقة هي الحياة نفسها.
إذا لم تكن الكتابة نقل (حالات)، فكيف وصلتني جملتي هذه نفسها، أعني كيف استطاع فريد الدين العطار أن يعطينيها؟! هنا الإنقسام!
الثلاثاء
"لن أكتبها"!
هذا ماقلته عندما فكرت في كتابة هذه الرزنامة!
"لن أكتبها"، لأنني أحس كأنني سأضع ذهني، بمعماره المتراوغ، وأضيع فيه على الورقة، و(أتحَتحَتْ) في لا مكان، وأعطش للاماء، وأشربه، وأخضع لتقلبات رغباتي التي لا إجابة لها ولا إشباع!
"لن أكتبها"، لأنني أخشى أن أقع في الحيل، أن أسقط خارج المنطقة التي تمارس فيها الكتابة، أو بمجاز شائع أكثر، المنطقة التي تمارسك فيها الكتابة! أو بمجاز آخر، وإن يكن غير دقيق، النقطة الكيانية الشعورية الصحيحة التي يظهر فيها الجانب المطلق من كل لحظة وكل مادة!
"لن أكتبها"، لأنني مللت السخف، وارتباطاته اللانهائية مع أجزائه الكبيرة العظيمة، ولا أريد أن أنقله هنا!
"لن أكتبها"، لأنني أبحث عن المطلق، والمطلق هنا هو الشئ الفوري، كالدم الذي يدمج الإنسان في حياته دون أن يؤلمه ودون أن ينتبه، إنه اللذة الطبيعية. ومن مذبحة الكتابة هؤلاء الكتاب، ولا أقصد من هم ليسوا كذلك من الكتاب، ولا أزعج نفسي وإياكم بهم، فالكتاب مجرد من يفهمون ذلك ويفعلونه، وإن كانوا لا يكتبونه! المهم أن هؤلاء الكتاب يحاولون تبرير أجوائهم فقط لأنهم يعرفون أنه من الصعب على الكثيرين أن يفهموا أن ثمة ملمس مطلق لكل لحظة، ملمس يجعل الحرف حماراً راكضاً في الشعيرات الدموية الدقيقة التي قد ترمز للحروف بالنسبة للجسد كتركيب كبير مكون من أجزاء، وهو أمر صعب الإستيعاب، كتلك الوحشية العجيبة المثيرة في نهايات وبدايات صرخات (فرقة البلابل) الشهيرة!
الأربعاء
المشرحة تشبه القفص الصدري لخيالي. ضلوعها وأعمدتها مشيدة في مخيلتي. إنني أتنفس مخيلتي نفسها بوساطتها. سكنت عاماً قرب المشرحة في الجامعة الإسلامية. المسافة من بيتي الي المشرحة لا تذكر. بيتي كأنه (الكورنر) بالنسبة لميدان المشرحة الشاسع. كنت أسير وكأنني أخطو فوق قطن مبهم ومطلق، برغم الشمس والأرض الصلبة التي تنبت الأحجار الزرقاء الغامقة الصغيرة.
عمال المشرحة كانوا يشبهون الجثث. في الليل تنكشف ابتساماتهم الموتية الجميلة تعكس عفن عالم ما بعد الموت المحكم البرئ. في الليل يبتسمون، ويركبون دراجاتهم، ويطوفون حول المشرحة كأنهم في مدينة لذيذة تؤكل بمجرد النظر إليها. هؤلاء الحراس كانوا جزءاً لا يتجزأ من الجثث التي تقطن المشرحة، الجثث التي كان الفضول تجاهها يسكرني، وأحياناً يشربني بالكامل، فلا أستطيع مجرد الإنتباه إلى الدرس، حين تغمرني روائحهم الحلوة، الفظيعة، الجياشة، المختلطة برائحة الفورمالين التي تبدو داخل المشرحة وكأنها تنْشَع من رئات الطلاب وعموم المتحلقين حول الجثة. تلك الرائحة التي تعيش بتفتيتها الرئيس للرئة. إنها تفتت الرئة وتشحذ الإدراك تجاهها.
دعونا نرجع لعمال المشرحة، هل ثملتم معي بالفورمالين؟!
عمال المشرحة يركبون دراجاتهم التي من هياكل عظمية، ويطوفون في مخيلتي، أو ما تتخيله مخيلتي الميدان حول المشرحة، والذي لا تضاهيه جمالاً سوى ابتساماتهم القادمة من لامكان، القادمة من حيث تتفجر أقدام الموت العملاقة البريئة الضاحكة!
لا أميل إلى الأشباح، ولا للكتابة حولها، فأنا ممن يحبون الاستمتاع بالخوف، لا تبذيره! ممن يحبون أن يحيطوا قلوبهم بعصير هالة الخوف الجميلة عندما ترعش لحم الخيال في القلب!
عمال المشرحة، يا من تبحثون عن السياسة، يعبِّرون، طبعاً، عن العرق الذي فيه تتسيسون! إنهم هؤلاء: الإهمال، والأسنان، وابتسامة اللامبالاة المضاعفة، أو ابتسامة ما بعد الموت! أليست، شكلياً، تشبه كل ما بعد الموت حتى الموت .. يا للسخف!
الخميس
اللغة (الدلوعة) هي التي تدعوك الصحافة، مبدئياً، للكتابة بها! اللغة التي ترمي، أول ما ترمي، إلى تسليع اللغة (الأخرى)، بإبعادها عن منطقة التورط في اللهاث، في العطش، في الغاية، في الإصغاء، الإصغاء بمعناه العميق، فعل البناء الذي يتم في التأمل، بناء الذات الذي يشبه، بتشبيه مُخل، إكتشاف بترول الأعماق، المنطقة التي تفتح الأنا على تفجُّرها، أيا كان دوي ذلك التفجُّر، أياً كانت نتائج ذلك التورط، أياً كانت الجروح التي تفتقها تلك السقطة العنيفة، سقطة الذات في ذاتها، اللغة المؤلمة، المرفوضة، المستبعدة، التي تقود إلى هاوية الإحساس بالوجود، والتي تنتمي للحياة بالمعنى الحقيقي للكلمة!
يا للعفن الكثيف الذي يماثل عمى الأعماق، عندما تنتجه هذه الأعماق كرائحة. أنظروا إلى ما يكتب في هذه الصحافة (الدلوعة) .. صحافتنا! لكنكم مهما نظرتم فلن تروا سوى أناس لم يجربوا حتى الإصغاء إلى أنفسهم، بلغتهم (المريحة)، المرُفهة، المستكينة لإغواء الاطمئنان، والتي ليس فيها حريق واحد!
لغة الصحافة تسعى لإنتاج جسد، جسد شهي لكنه سطحي، على أنها، للأسف، لا تسعى حتى إلى ذلك، وإنما تتلقاه كما يتلقى الجسد الغيبوبة فيمتلئ بها، فيصبح ذلك الانتفاخ الاطمئناني في لغة الصحافة هو إغرائها الأول والوحيد!
الخبائث التي تمارس هنا وهناك، كنكهات، هي غرائز سيئة تنتمي بالدرجة الأولى إلى عدم المقدرة على الحوار. لا أعني الحوار مع الآخر، إنما الحوار مع الذات، لأن هذا الحوار، بالذات، لا يتم إلا عن طريق الأنياب. لابد أن يكون المرء قادراً على عض أعماقه بأنيابه ليحصل على طعم دمه الحقيقي بين أسنانه ولو لمرة واحدة، الدم الذي يجري في مادة الحياة الحقيقية بكل قسواتها!
لغة الصحافة تطمئن إلى شحمها فقط، ولاتجرح نفسها أبداً، لأنها مبنية، أصلاً، على النظر في عين الآخر، على جذب عين هذا الآخر وانتباهه القريب، السهل، غير المُنتج، غير المُبدع، لا على النظر في العين الداخلية التي بإمكانها أن تكون هاوية تبتلع كل متأمل!
لغة الصحافة مبرقشة بالعادي، لأن العادي قناع يعطيها جواز المرور، بينما تبقبق مرة مرة بإثارة هنا وإثارة هناك، إثارة لاتتعدى العادي، بل تكون، في أحسن حالاتها، تنويعاً على العادي.
لغة الصحافة هي التي تحافظ على نفسها بمنأى عن (أوبئة المبادرات)، تسارع لتغطية نفسها جيداً من أية (مبادرة)، من أية (مغامرة) غير مأمونة العواقب داخل اللغة (الأخرى)، من أي نزيف لغوي، إنها اللغة (الدلوعة) التى لا تنتج (متعة)، وبالتبعية لا تنتج (حقيقة)، وهل ثمة (حقيقة) غير (المتعة)؟!
لغة الصحافة لغة تتواطأ ألفاظها وعباراتها ضد الحياة. لغة لا تصل بها الشجاعة لأن تكون إنتاجاً حقيقياً سيئاً، كالبول مثلاً، ولا إنتاجاً حقيقياً جيداً كالنبضة مثلاً! إنها دائماً ما تراوح دون منطقة الحقيقة التي هي منطقة الجروح، منطقة إختبار صبر الذكاء على إنتاج موقف، منطقة إختبار صبر الذكاء على معايشة إحساس واحد، والإخلاص له. إنها لغة تافهة ضد الحياة لأنها تستغل شعار (من أجل الحياة) لتدعم هيكل الجهل بالحياة؛ لتعطل الحواس، ولتدعم الحساسية الغبية لتلقي الحياة. إنها تنتصر لنوع معين من الحياة، النوع الذي يُدعَى (القبر)، قبر الأسئلة وقبر العقل!
أرجو أن تلاحظوا وتشهدوا أنني، حتى الآن، لم أهاجم صحافياً بعينه! إنني، فقط، أهاجم البنية الثابتة، الهيكل (المقدس)، الموديل الجاهز الذي يحبس الإنسان في دائرة تلقي الحساسية الغبية، وإنتاجها، و(توسيعها) بما يعني، بالضبط، (تضييق) الحساسية (الأخرى) .. الحساسية بالمعنى الحقيقي للكلمة!
الجمعة
"جيل العادة التي تعرفون"! عبارة لم يعد تفاديها ممكناً، من زاويتي، عند أي حديث عما يسمي (حياتنا)! فالحياة هنا انشحنت كلها في المخيلات. لم تعد ثمة حياة على أرض الواقع، فالأحياء هنا ينتقمون بمخيلاتهم مما قد يؤذيهم. تجدهم في غرف المخيلة المغلقة يرسمون وينفذون سيناريوهات الإنتقام، ويستمتعون بها. يدافعون عن أنفسهم في مخيلاتهم، يمارسون ملذاتهم في مخيلاتهم، يبررون أخطائهم في مخيلاتهم، والعجيب أنهم ينجزون ذلك بمنتهى الإتقان! أما في الواقع، عندما تنظر إلى التعثرات الفظيعة، والتمزقات المريعة، والفشل المتفشي، تستغرب أين يذهب ذكاء المخيلات وطاقاتها الخلاقة! إن هؤلاء الناس يصلون إلى حياتهم منهكين بعد أن يستهلكوا أنفسهم في مخيلاتهم، وبعد أن يمارسوا، حتى آخر قطرة، نشاطهم التعويضي في إشباع ذواتهم داخل جو المخيلة الصافي، كالوجه الذي يخلقه حامله، وبعد أن يكون فشلهم الفادح قد تفتت وذهب في مجاريه، ليأتوا إلى الواقع، يغذون مخيلاتهم من جديد بما تحتاج (لاستهلاك) (انتصار) جديد على فشل ما، أو ظلم ما، أو سخف ما .. وهكذا!
تتفتح الطرق أمام هؤلاء (المخيلاتيين) الكثر إما أن يقلبوا الطاولة رأساً على عقب أن يثوروا لتغيير الحياة وتغيير قوانينها وتشويش معاييرها التي تأكل مساحتهم، والثورة هنا تبدو كأنها تدفق اللاوعي المكبوت المسنود بطاقة المخيلات وخبرتها الحلمية، أن يفيض اللاوعي ويتدفق مفتتاً كل عائق وقانون وثابت و(مُتَثابت)، والخيار الثاني لهؤلاء المخيلاتيين أن يستمروا كما هم يعيشون في مخيلاتهم وينافقون في الواقع. الخيار الثالث ربما يكون أن تسحبهم هذه المخيلات كلياً، أن تشربهم أو تبتلعهم مخيلاتهم بحيث لايعودوا موجودين في الواقع، أن يذهبوا إلى ما يسمى (الجنون)، هنالك خيار أن يصبحوا جزءاً من الواقع، أن يقتلوا مخيلاتهم ليصبحوا جزءاً من ما يقهرهم ليصبحوا جزءاً من واضعي العوائق والغباء الذي تتسم به الإجراءات أن يصبحوا من (ذوات الجلد التخين) وهؤلاء كلما تراصوا وكلما إتصلوا فيما بينهم كلما متنوا وزادوا مساحة الإحداثيات المضيقة على المتخيلين.
يحاول الفن أن يبسط جزءاً من أرض هذه المخيلة على الواقع، الواقع الذي يأكلنا ويقيدنا ويحكمنا بما يسمى بالنجاح والفشل وفق شروطه التي يضعها ذوو الجلد (التخين) والمذعنون لهم في الغالب. يحاول الفن أن يضيف منطقة يمكننا أن نتنازع فيها وأن نخطئ، منطقة تكون لنا فيها حرية الخطأ والجنون والتبذير والتجربة بكلما تقتضيه من تناقضات، مكان يمكننا أن نتمزق ونلتئم فيه دون أن نخاف من أن يحسب ذلك علينا، لكن، الفن يفعل ذلك بصرامة تقنية شديدة، صرامة قد لا تنجو من آليات ما تقاومه ومن قسرية تراكم التجربة البشرية، لكنها صرامة مفرغة من سلطتها (كما أتمنى أن أكتب وأمارس).
يبقى أن أقول أن (جيل العادة التي تعرفون) عبارة أطلقها شاعر صديق على جيلنا المحروم من أن يعرف أو يجهل غريزته، أن يجربها أو أن تجربه. وبدت لي عبارته كهواء يحوم بين كلامي، أو كأنها مناخه!
السبت
حفلٌ أعلن عنه بصيغة (المدرسة والأستاذ: الهادي الجبل ومحمود عبد العزيز)!
ذهبنا وفينا ما فينا من حقيقة صوت محمود! الصوت البحر العاتي الذي يهدر في الفضاء حاملاً الجملة الغنائية ليحطمها على الحدود المطلقة للصوت! الصوت الذي يغني "كنت بستجدي العواتي زي مشرد حظو عاثر"، فلكأن ذراته نفسها، في تكوينها، تؤدي إلى نفس الشكل.
ذهبنا، وفي الفاصل الأول غنى الهادي حامد ود الجبل الذي يندمج مع أغنيته فيصير هو نفسه جزءاً منها. يدخل في الزمن كما يقال، لكنه إنما يحرف الزمن ليجعله زمنه الخاص. غنى الهادي وانتهى فاصله، دون أن يلوح خبر عن محمود. يمضي الوقت ببطء غياظ كأنما يسير في عروق الناس الذين ملوا من انتظار لحظة لا يعرف أحد متى تأتي بالضبط، لحظة يدمر فيها غضبهم وحبهم لمحمود نادي التنس واستهتار محمود بحبهم العجيب لصوته، فما لبثوا أن انتصبوا، بعد ساعة، على أرجلهم، بينما قبضاتهم ترفع حديد الكراسي المتهالك بقوة وغضب!
بعد ساعتين أطلَّ، فنسي الجمهور غضبه، عندما انطلق الهتاف الشهير: (الحوت لا يموت)، ليمسح بضربة حب واحدة كل استعداد للتدمير! غنى محمود أغنيته الأولى، والجمهور لا يزال واقفاً على هتافه، كأنه موجة من صوت محمود جمَّدها الغضب المتحول حباً، أو الذي كان حباً، في الأصل، حولته كثرة الحب إلى غضب! المهم، أن محموداً انتهى من أغنيته، بينما الجمهور لا يزال واقفاً، فسألهم، في لهجة مستغربة:
"في شنو؟! واقفين كدا مالكم"؟!
ثم أضاف:
"إنتو دايرين غنا، ولا دايرين أي كلام"؟!
فخرج الهتاف المختلط غير المنظم، على طريقة تلاميذ الإبتدائي، ممزوجاً، بعض الشيء، بالغضب الذي هو، في العادة، جزء من أصوات البالغين:
"دايرين غنا"!
ليقول محمود ببساطة:
"ما تقعدوا طيب"!
وسرعان ما حمله صوته فوق كل غضب وضغينة، منتشلاً إياه، كما في كل مرة، من أجواء الطعنات والمؤاخذات التي لا معنى لها! يعيش محمود كلياً في تجربته، في زمن تنفسه الخاص، عبر حنجرته التي تتسامى على التطاحن والضجيج، بينما ترفع عواتيها الكون إلى منصة الصوت المحض، الصوت الذي ينتمى للجسد ولا ينتمي له بنفس المقدار، والذي يعرف جيداً كيف يمكن أن يغير مسار جيل يعبر عنه، يتحطم، ويغضب، ويصبح عاتياً، بدلاً عنه، دون أن يقصد، أو ربما لأن ذلك جزء من طبيعته.
الأحد
ما يلي جزء من رسالة إلى الكاتب والناقد التشكيلي محمد عبد الرحمن بوب: "مات العنف، إذ لم يعد فيه غير أن يريكم نفسه بهدوء، بهدوء وحذر، ويدخل كلوحة عصية تماما على الظهور إلى سطح الإدراك، لأن العنف الآن، داخل هذه الحقبة الفنية بإمتياز، يمنحه الملل شهادة موته كمفردة محضة، فلم يعد له غير أن ينجز نفسه، وفق شروط تؤهله لاقتحام ما هو جدير بالإدراك، أعني أن يراكم خبرته بالطريقة التي يسحق بها اللون ذاكرته، ليبدو نظيفا منها في مظهره، بينما يمتص هذه الذاكرة، في حقيقته، ليشكل منها جوهره الحريف الطزاجة والتبدِّي. هكذا أجدني شاهداً على موت العنف وجذرية الملل، موت الغريزة وجذرية العبث، موت الموت وجذرية جَوِّه! أبحث في اللوحة وفي مسلمة فضائها عن أن تكون هي الحياة المشدودة والمتسكعة في أطراف مكوناتها. تظل اللوحة عصية على الموسيقى، لا تطالها الموسيقى إلا كمتلقي، تقف أمامها مثلها مثل أي حاسة، وإن كانت حاسة حاذقة وكثيفة اللهجة كالموسيقى. في الكتابة تجد الموسيقى اغتصابا مسبقاً وبعدياً لكل ما يمكن أن يطفر عن مدارها. أما اللوحة فتظل عصية ترتد عنها الأصوات وتحوم كهلوسة مُبعَدة بشدّ اللوحة لوجهها وحفظها له إلى ما لا يمكن أبدا لمسه إلا بوسيلة إصغائية. ربما يمكن للموسيقى أن تكون مسيطرة على اللوحة بطريقة (أيضية)، أى عندما تهضم اللوحة نفسها، عندما تنجز حركتها، تتخلق أمعاؤها الإيقاعية الموسيقية بالضرورة، عندها تتحرك. لكن ما يهمني من ذلك هو أن اللوحة تمتص كل شئ، حتى نزوتها الموسيقية، بل حتى العين، لتحضن وجهها، صرامة وجهها، ولتتبقى إبهاماً واضحاً عصياً محرجاً يراكم محاولات الوعي حوله، ويحفزها".
إنتهت الرسالة. أها وبَعَدَّاك؟!
التحدي المطروح أمام البشري هو (اللحظة)، كيف يتم إمتصاصها وإفناء (الكيان) فيها بالكامل، كل ذرة من (الكيان) تفنى في ذرة من (اللحظة)، فتلتئم ذرات (الكيان) بذرات (اللحظة) في قبَل سيامية تامة!
(التصوف) بهذا المعنى مرحلة أو مسافة في (الملل)، والإنتقال من (الملل) إلى (التصوف) يتم بمقدار (الشك) الذي يسلطه البشري على أي فعل، في أية (لحظة). وكلما زاد (الشك) كلما مكن من فتح المزيد من الثغرات في (اللحظة) للإحاطة بها من كل جانب!
(الشك)، إذن، نافذة كلما كانت مُدرَّبة بما يكفي، كلما تم اصطياد (اللحظة) من زوايا مختلفة تتيح الحصول علي جوهرها بنزاهة! وإنني (لأشك) في أن أي ركض حواسِّيٍّ تجاه (اللحظة) إنما يخلق فراغاً هو المسكوت عنه في آلية الركض، وهذا شيء يجدر التفكير في أنه يمنح، بصورة شبه دائمة، نفحة نقصان قد يضيع الكمال بدونها!
عندما أتحدث عن امتصاص (اللحظة)، فإنني أتحدث عن طريقة لإدراك هذه (اللحظة) بالكامل، للشعور التام بها، برقصها، بنزفها، بتعرقها الجسدي، باستيهامها عبر الخيال، بإفناء احتمالاتها واحداً فواحد؛ أتحدث بطريقة ارتدادية للداخل، للمصدر، للملل، للجسد، عن أوضاع مختلفة لمضاجعة الذات، لأصِلَ إلى (لحظة) خصب يتوقف فيها كل شيء، دون أن تتوقف!
إنحدرت هذه الخاطرات من نقاشات ممتعة مع الصديقين عمار جمال وأسامة عباس، في (سخانات) لم نكن لنحسها رغم تعرقنا منها، فقد كنا في مناخ أدمغتنا غارقين! قبضة عمار المرتفعة من انفعاله بما كتبت فرجينيا وولف عن عيش كل (لحظة) في العالم بكامل ما تحتاجه من شراسة، و(شكنا) المختلط الذي تشابك حتى صار شبكة إصطادت صياديها بنفس القدر الذي إصطادت به فريستها!
تحدثنا، وتحدثنا، وتحدثنا ..
عن تركيب العين تحدثنا، وعن تقنيات (الشوف)، وعن معاوية نور، وعن عبد اللطيف علي الفكي، وعن رينيه شار وكلمته: "وحدها الأعين ماتزال قادرة على الصراخ"! لأول مرة أرى عبد اللطيف علي الفكي، المعني أساساً بالرؤية التي تعنيني، أيضاً، أنا الذي يلتقط حبوب البصر الغائصة في عنف الغباء والركود بمنقار العين! قدمه أحمد عبد المكرم بأنه "أعلن عن حضوره النقدي، في الثمانينات، بمقالة عن المنهج البنيوي تعد الأولى من نوعها في السودان". حدث ذلك بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، من على المنصة المرتفعة بعض الشئ، والممدد فوقها معاوية نور ينتظر أن تقدحه أوراق الفكي بعنوان: (ما الأدب؟ يسأل معاوية نور)، ليعقب عليها الناقدان هاشم ميرغني وأحمد الصادق وآخرون. وما سأقدمه هنا، كانتباهات كانت تلمع على ساحل الكلام الكبير الذي ملأ القاعة بحضورها، ليس سوى (تعرية) تتحرَّى (التغطية)، ورائحة ما (رأيت)، وما لم (أرَ) أيضاً!
ففي موجة العين تنفصل الكلمة عن الكيان، بلا دعم، بلا دافع، بلا رغبة، بلا مُستقبِلات، بلا حيث، بلا حروف، بلا مكان، بقوة اليأس فقط، اليأس الذي يلعب دور الكلمة، ثم يسرع ليلعب دور مكابدة تكوُّن الكلمة، ثم يركض ليلعب دور الفم، جهاز النطق الحركي، ثم يمحو كل أدواره، ويعرضها في شاشة تمثل البصر وجسده، مثلما تمثل اليأس من كل ذلك، حيث يعود اليأس إلى جسد كلمته سالماً!
وتجري هذه العملية بين شراستين، شراسة الإستعارة، كرمز للعملية الأدبية، وشراسة اليأس منها، كرمز للعملية الأدبية (برضو). كل شئٍ يصبح يأسه، كل شئ يعطيه اليأس جسده ويعتقه منه. وهي العملية الوحيدة التي أعرفها، حتى الآن، والتي تجعل سرعة الفم وسرعة الحروف مرئيتين. بعبارة أخرى مُخلة، كونها مثقلة بتاريخها، يحدث تراكم الأدب في اللاوعي، أي أن الكلمة تدخل اللاوعي برائحتها، وشخصيتها، وملمسها، ومتعلقاتها، العنيفة التي تساهم في تشكيل هذا اللاوعي، وتتشكل به. يحدث التراكم الأدبي بذاكرة تذوق، ذاكرة لذة، ويخرج كقطرة عرق، أو كصوت لا يمكن إنكار انتمائه للجسد، كما ولا يمكن تأكيد رؤيته وهو يخرج. هذه العملية هي التي تمثل الإنفصال الواعي المرئي، وطابع القوة الوحيد اللائق بإنجاز ما وصفته هو قوة اليأس، قوة يأسي هي التي تجعلني أرى ما أكتب، حيث هي الحروف والبصر والأسنان التي أعض بها حسرتي على كل هذا (وجودية اللغة).
خلع العين في (الأدب) يوافق عندي تركيب العين في (النقد)، أعني من ناحية الأدوات التي يتحرك بها كل منهما على السطح نفسه. فالأدب يتجاوز الأحجام المحرجة للتراكم، باللاوعي، بالعتمة التي يحدث فيها الصراخ بكل صوتيته وطبيعيته إن أمكن، بينما يقبض النقد على هذا الطوب الشفاف، الطوب البصري، ويراكمه مراكمة واعية، ليقبض بذلك، ضمن ما يقبض، كيفية تراكمه نفسها.
الإنتباهات المتتالية في ورقة عبد اللطيف، إبتداءا من مسارها نحو معاوية، إلى ربطها نفسها ومعاوية بسؤال ما الأدب، إلى إنتباهة عبد اللطيف لكون معاوية أول من أدخل القصة على الكتابة العربية المعاصرة؛ كل هذه الإنتباهات جعلتني أتابع سؤال الناقد عن ماهية غريزة بقائه، حيث يمضي بلا شبكة ليصطاد الأشعة، والصدمات، واللحظات (كلحظة) معاوية التي ترنُّ في الوعي، وإنتباهة عبد اللطيف لمعاوية، والتي هي محاولة الناقد، بطريقة واعية، لاستنفاد ما لدينا من صدمات، وما لدينا من بصر، ليس لمضاعفة البصر، فهذه ستكون متحققة بدهياً، وإنما لتركيب العين التي هي المكان، مكان فعل البصر، أو مكان رؤية الرؤية.
في الأدب (موجة) بصرية منشأها اللاوعي غالبا، في النقد (طوبة) بصرية. في الأدب إسعاف البصر، واستفحال البصر، أما في النقد فتركيب العين بوعي. طبعاً كسِرَت هذه الحدود، على أن هذه المناطق تلزمني، تلزمني إجرائياً كالكلمات أحياناً.
* شاعر وصحفي وطبيب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.