معظم العرب لا يعرفون عن السودان إلا أنه بلد فيه نهر اسمه النيل، وبه حركات تمرد يقود كل واحدة منها شيوعي أو عميل لإسرائيل أو أمريكا أو كوستاريكا،.. ثم ظهر فيه قوم اسمهم الجنجويد يحاربون عناصر متمردة في مكان اسمه دارفور.. ويشهد اليوم تظاهرات كانت في بادئ الأمر ضد الغلاء ثم صارت ضد غول الحكومة وتغولها على حقوق الناس، وفوق هذا فالسودان ارتبط بمساندة الإرهاب ويواجه عقوبات من الأممالمتحدة والولايات المتحدة.. باختصار فإن الانطباع العام لدى العرب هو ان السودان بلد في طور التشكيل ويعاني من مشاكل «التسنين»، ولا يذكر اسمه إلا مقرونا بمأساة من نوع أو آخر.. وما لا يعرفه الكثيرون هو ان السودان من بين دول قليلة في العالم الثالث تشكلت حدودها الحالية في عشرينيات القرن التاسع عشر.. فقد أرسل محمد علي باشا حاكم مصر ابنه إسماعيل باشا على رأس جيش جرار لفتح بلاد السودان، وجاءنا جيشه في منطقة النوبة ففتحنا له كوبري (جسر) وقلنا له ربنا يسهل عليك، أي أننا لم نقاومه ولم نتصد له بسبب الاحتكاكات المستمرة التي كانت بيننا وبين جيراننا العرب إلى الجنوب منا، وبسبب أننا لم نغفر للعرب أنهم أسقطوا الدولة النوبية التي ظلت مسيطرة على المنطقة الممتدة من جنوب مصر وحتى جنوب مدينة الخرطوم لعدة قرون.. ووصل الجيش التركي إلى ديار قبيلة الشايقية وواجه مقاومة شرسة، وفوجئ الأتراك بأن هناك امرأة (مهيرة بنت عبود) وسط جيش الشايقية تشحذ هممهم للقتال بل وتسهم في المعركة، وبداهة فقد انتصر الجيش النظامي التركي على الجيش الشايقي القبلي وزحف الأتراك جنوبا إلى ديار الجعليين، وهم إلى يومنا هذا من أكثر أهل الأرض شجاعة وبسالة، وفيهم الكثير من طباع جورج بوش، بمعنى انهم يشهرون السلاح أولا ثم يفكرون في العواقب تالياً،.. وكان إسماعيل باشا شابا متغطرسا، وجلس قبالة ملك الجعليين وكان يحمل اسم «نمر» وصار يعدد مطالبه: نريد كذا ألف حصان وكذا ألف رجل (ليلتحقوا بجيشه) وكذا مائة رطل من الذهب.. فقال له المك (الملك) نمر ان تلك الطلبات تعجيزية وأن أهل المنطقة لا طاقة لهم بها، فانفعل الباشا وضرب نمر بغليونه (البايب) فشهر حراس ملك الجعليين سيوفهم ولكنه (نمر) أومأ إليهم بعدم الإقدام على أي حماقة، بل وابتسم للباشا وقال له: طلباتك أوامر.. وسنقدم لك أكثر مما طلبته، فأنتم ضيوفنا وشرفتونا ونورتونا.. وعلي بالطلاق انت وجيشك معزومون عندي في العشاء لتعرف مكانتك عندنا، ثم التفت إلى مساعديه وأصدر الأوامر بنحر مئات الثيران والخراف، وفي المساء أقيمت وليمة ضخمة.. وانتظم الجند الأتراك في حلقات تتوسطها جفان بها تلال من اللحوم، وقام أعوان ملك الجعليين بتوفير الخمور بكميات تجارية، وبينما الجند في حالة انتشاء وانبساط بعد شهور من الحروب والسفر عبر الصحاري وبينما الخمر تلعب برؤوسهم كان الجعليون يضربون سورا من الشوك والحطب حولهم،.. وجاءت لحظة كان فيها إسماعيل باشا وجميع جنوده في حالة انعدام وزن، وعندئذ أشعل الجعليون النار في السور الشوكي وملأت الأفق رائحة الشواء.. فقد احترق اسماعيل باشا وكل أفراد جيشه، ومن نجا من النار مات بسيوف الجعليين.. طبعا جاء جيش تركي آخر وارتكب مذابح بشعة في ديار الجعليين ولكن نمر وأعوانه كانوا قد هربوا إلى الحدود الحبشية.. وكان التصدي للغزو التركي عام 1821 مخاض ميلاد الروح الوطنية في سودان اليوم. جعفر عباس [email protected]