فى مسجد قايتباى بجزيرة المنيل بوسط نيل القاهرة القديمة تقدم نعش رضوي عاشور للصلاة عليه , وإن كان ثمة مكان يصلى عليها فيه غير هذا المكان لكانت القدس وكيف لا وهى المسكونة بحب فلسطين , رحلت رضوي ونزل خبر رحيلها ثقيلا على القلوب , ماتت وهى تشهد موت الثورات والأحلام التى نادت بمجدها وعزها . فى مطلع نوفمبر الماضى توقفت أمام سيرتها الزاتية بمعرض الشارقة للكتاب والتى عنونتها ب (أثقل من رضوي) تحكي قصة حياة تستشعر دنو نهايتها وبداية حياة جديدة لمصر بعد الثورة فبعد أن بدأتها سيرة لرضوي إنتقلت الى الثورة وكأن الثورة جزء من هذه السيرة والحياة . رأت رضوي النور منتصف الاربعينات من القرن الماضى والقاهرة فى عز بهائها العمرانى والثقافى تتعطر أمسياتها بالشعر والأدب وتستيقظ على المطبوعات ومنتجات المعرفة فى زمان مجلة الرسالة و(أبولو) ومدارس النقد وصحوة المسرح والموسيقى , وتفتحت ذاكرتها بعد ثورة يوليو وحرب 1957 وصوت العروبة فى القاهرة وفى هذا المناخ إرتادت جامعة القاهرة لدراسة الادب الانجليزي والادب المقارن وكانت الجامعة وقتها من افضل الجامعات واعرقها , وقد تعرفت على الفتى الفلسطينى ابن رام الله مريد البرغوثي فى رحاب الجامعة وشاركته حياته ايام ان كانت الامة العربية تتشارك همومها وآلامها وأمالها , وفى عام النكسة 1967 حرم البرغوثي من العودة الى الضفة الغربية بعد احتلالها وبقى فى مصر وفى رحاب رضوي حتى طرد منها بعد مصالحة السادات مع الاسرائيليين نهاية السبعينات وكتب من بعد فى كتابة الاشهر ( رأيت رام الله ) بأنه تحصل على شهادة من جامعة القاهرة الا أنه لم يجد جدارا يعلق عليه تلك الشهادة . انتقلت رضوي الى الولاياتالمتحدة فانجزت رسالة الدكتوراة فى النقد عن الأدب الافرو-امريكى من معهد ماساتشوستس حيث تتخرج النخبة فى الآداب والعلوم , وكأنى بها تختار موضوعها من وحي التقارب ما بين مأساة شعب مستعبد مهجر من افريقيا وشعب مطرود فى فلسطين تجمعهم المأسأة واغانى الحنين التى يرددونها بأصوات مشروخة من العبرات , وكتبت رضوي روايتها الاولى عن تلك الفترة (مذكرات طالبة مصرية فى امريكا ) , وانجزت ضمن دراساتها النقدية دراسة عن الضفة الاخرى من الاطلنطى تناولت (الرواية فى غرب افريقيا ) وكأنها تريد ان تربط بينها وبين موضوع الدكتوراة (الكتابات النقدية الافرو – امريكية ) وقد أنجزت العديد من الكتب والدراسات والروايات بجانب التزامها بالتدريس الجامعى , وعلى غير المعتاد فقد كتبت واهتمت بالنقد وهو ضرب من ضروب الاجتهاد الاكاديمى القاسي والذى لا يتوافر فى بلادنا من يطرقون سبله , وذلك قبل ان تكتب الرواية فابدعت فى النقد خاصة دراساتها فيما كتب غسان كنفانى , وحينما كتبت الرواية كانت مزيجا من الفكرة والمتعة والتاريخ فثلاثية غرناطة (غرناطة – مريمة – الرحيل ) من أجمل ما كتب عن الاندلس حديثا تنثر الرواية الحقائق مرة عن طرد العرب والمسلمين من هناك وكأنها تصرخ أن أدركوا أهل فلسطين . تحمل رضوي كل جينات المثقف العضوي على حد تعريف الفيلسوف الايطالى غرامشي فقد حملت هموم الارض والامة والناس تصالحت مع ذاتها ومع ما تحمل من افكار لتنتج للناس ما هو افضل كيف لا وقد قادت التظاهرات التى تدافع عن الحريات فى الجامعات المصرية وقد جهرت بصوتها عندما سكت الناس , وقد كتبت فى الثورة ما لم تكتبه فى سيرتها الزاتية . ورضوي تشابه الكاتب والمفكر عبد الوهاب المسيرى والمفكر الفلسطيني ادوارد سعيد فى الاهتمام بالادب الانجليزي والنقد الادبي والادب المقارن واهتمامهم بقضايا التحرر وبفلسطين والصهيونية فقد الف المسيري الموسوعة الصهيونية وكونت رضوي تجمع مناهضة الصهيونية فى الجامعات المصرية وتشارك ادوارد سعيد الهتمام بالادب كفعل تحررى او أداء للخنوع والاستسلام وثلاثتهم عاشوا لقضايا آمنو بها وانتفضوا على تيارات المصالحة والتطبيع والسلام . بزلوا حياتهم للمعرفة وللناس . رحل ادوارد سعيد ونثرت رفاته ومن بعده المسيري واليوم ترحل رضوي وقد تركت وراءها اعمالا خالدة صارت علامة فى مسيرة الادب والنقد العربي وتركت ابنها الوحيد تميم البرغوثي وقد تركت فيه حياتها كما قال صلاح احمد ابراهيم: (وإذامتنا سنحيا في بنينا بالذي يبعث فيهم كل ما يبرق فينا فلنا فيهم نشور .) فتميم أستاذ للعلوم السياسية فى جورجتاون ونال فيها درجة الدكتوراة قبل عشرة أعوام وهو فى منتصف العشرينات من العمر , وعمل ببعثة الاممالمتحدة بالسودان (اليونيميس ), وقد توج اميراً للشعراء بقصيدته الاشهر (فى القدس ) ومنها . يا كاتبَ التاريخِ مَهْلاً، فالمدينةُ دهرُها دهرانِ دهر أجنبي مطمئنٌ لا يغيرُ خطوَه وكأنَّه يمشي خلالَ النومْ وهناك دهرٌ، كامنٌ متلثمٌ يمشي بلا صوتٍ حِذار القومْ والقدس تعرف نفسها.. إسأل هناك الخلق يدْلُلْكَ الجميعُ فكلُّ شيء في المدينة ذو لسانٍ، حين تَسأَلُهُ، يُبينْ في القدس يزدادُ الهلالُ تقوساً مثلَ الجنينْ حَدْباً على أشباهه فوقَ القبابِ تَطَوَّرَتْ ما بَيْنَهم عَبْرَ السنينَ عِلاقةُ الأَبِ بالبَنينْ رحم الله رضوي وغفر لها والحزن أثقل منها ونحن نودع كل يوم من لا يتكرر ولن يعود .. شجون ومتون