لم يسعدني الحظ بمعرفتها عن قرب، ولا جالستها كما أتاحت لي القاهرة ( وبراح دار ميريت تحديداً) أن أجالس عدداً من الكتّاب الذين قرأت لهم وأحببتهم، مثل خيري شلبي، وإبراهيم أصلان، وأحمد فؤاد نجم. لكني رأيتها مرات عديدة، كان أغلبها في ميدان التحرير عقب ثورة يناير، في مظاهرات وفعاليات ثورية كثيرة. غالباً ما كانت تتكئ على ابنها تميم، الشاعر الشاب المعروف. القائل في واحدة من أشهر كلماته "يا شعب ياللي دفع تمن الشوارع دم/ احفظ أسامي اللي ماتو ف الشوارع صم"، والتي تحولت لشعار ثوري شهير. أمّا المرة الأولى التي اقتربت فيها منها وسمعتها تحكي عن حياتها – تلك التي سجلت جانباً منها في سيرتها التي أسمتها "أثقل من رضوى"- فكانت بمكتبة الشروق بالزمالك، في حفل توقيع طبعة جديدة من ديوان زوجها وحبيبها مريد البرغوثي "رأيت رام الله". يومها طلب منها الكاتب الصديق بلال فضل أن تحدث الحضور عن علاقتها بمريد. وقفت أمامنا بابتسامة خجول كأنها صبية مراهقة، تستحضر ذكرى أول مرة رأت فيها ذلك الشاب الفلسطيني يلقي شعره على سلالم جامعة القاهرة في الستينيات من القرن الماضي. قالت رضوى " حين سمعته، أحببته، وقررت ترك كتابة الشعر الذي كنت أحاوله". وقال عنها مريد " حين ضحكتِ، حقل من عبّاد الشمس تلفت حولك". تركت رضوى عاشور الشعر ووقعت في غرام الشاعر. ولدت رضوى عاشور في القاهرة عام 1946، واختار لها والدها – استاذ اللغة العربية – اسم رضوى، تيمناً بجبل معروف في الجزيرة العربية. وهو الجبل الذي ذكره المتنبي في رثاء محمد بن اسحق التنوخي "ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى/ أن الكواكب في التراب تغور/ ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى/ رضوى على أيدي الرجال تسير". ورضوى كانت جبلاً كما سمّيت عليه. في عالمنا العربي لا يمكنك أن تكون مشتغلاً بالثقافة والأدب إلا ويشغلك الظلم والقمع والفساد. ورضوى وهبت حياتها للنضال، كما وهبتها للأدب. في ستينيات القرن الماضي، وعقب نكسة 1967، كان الطلاب يغلون غضباً يطالبون بمحاكمة المتسببين في الهزيمة، يزأرون من أجل الحرب والثأر. وكان النظام الثوري التحرري يتخبط، لا يعرف أين الخطأ، ولا لماذا أتت الهزيمة ثقيلة هكذا. وفي غمرة التخبط كانت صرخات الطلاب مزعجة، مقلقة، تجعلهم أقرب للعدو في نظر النظام. حينها قرر وزير الداخلية أن يجتمع بالطلاب والمثقفين لشرح أبعاد الموقف، وتقريب وجهة نظر الدولة لهم. وقف شعراوي جمعة وزير الداخلية الرهيب يحاول اقناع الشباب والادباء أن كل شيء تحت السيطرة. حينها وقفت شابة صغيرة في العشرين من عمرها أمامه وطلبت الكلمة. ثم قالت بوضوح " لننتصر، يجب أن تفرجوا عن كل المعتقلين، فوراً". كانت تلك رضوى عاشور. التي عاشت عمرها كله بعد ذلك تناضل لذات الحلم، النصر، والحرية للمعتقلين. ناضلت بكتاباتها، ونشاطها في حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وبالوقفات والمظاهرات والندوات. حين أحبت رضوى مريد البرغوثي على سلالم جامعة القاهرة وهبت نفسها لقضية الشتات الفلسطيني. مريد الشاب الفلسطيني الذي غادر بلاده للدراسة في جامعة القاهرة فوجئ بحرب 1967 التي أوقعت الضفة الغربية في قبضة اسرائيل ومنعته – مع ملايين الفلسطينيين – من حق العودة. وجد الشاعر الطريد وطناً في قلب رضوى وبلادها، ثم جاء السادات بحربه وسلامه، فطرد مريد من مصر عام 1979. تمزقت رضوى بين وطنها مصر، وبين منفى حبيب العمر في المجر. وتحمل على حزنها صغيرها تميم. وبعد سنوات من الحزن والنضال، تمكن منها ورم بالدماغ هزمها وهي التي لم تهزمها الأنظمة ولا تطاول القهر. فجر يوم الاثنين 1 ديسمبر 2014 أغمضت رضوى عينيها للمرة الأخيرة. ورحلت تاركة مريد وتميم للحزن. رحلت رضوى عاشور وتركت لنا "ثلاثية غرناطة"، و"الطنطورية"، ورصيداً من النضال. ماتت رضوى، وكانت وصيتها أن يخرج جثمانها من مسجد عمر مكرم بميدان التحرير. لكن السياسة ضنّت عليها بوصيتها. فكان التحرير مغلقاً بالبوابات الحديدية ذلك النهار (وإن كان هناك وعد أن يكون العزاء مساء الاربعاء بعمر مكرم)، فخرج جثمانها من مسجد صلاح الدين بالمنيل، جوار كوبري جامعة القاهرة التي شهدت عشقها لتميم، وبرفقة النيل الذي سحرها. وقال مريد البرغوثي حزناً، بعدها "يا ضحكتها، عودي عودي". لكن ضحكة رضوى لم تعد. أيها العالم القبيح .. ماتت رضوى الجميلة. *** "هذا القلب الذي يطلب فجأة ما لا ينال. غريب هذا القلب. غريب". " وأنا أقرأ لك أتخيلك وأنت تكتب،أرى وجهك، جلستك، حركة يديك، مكتبك... فأشتاق أكثر " حمّور زيادة هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته