في الأيام العصية وتفاقم الأزمات.. وتنامي المشكلات تختبر الأحزاب صلابة عناصرها.. في المعارضة حينما يصبح السجن هو الإقامة الدائمة لمعظم قادة الحزب تُكتشف معادن الصادقين من أصحاب المبادئ، وحتى الأحزاب الحاكمة تتعرض هي الأخرى لاختبارات الثبات حينما تعصف بالحكومات المشكلات وتحاصرها الأزمات مثل عاصفة تظاهرات (سبتمبر) التي أخرجت “محمد عثمان الميرغني” من البلاد ولم يعد حتى اليوم بعد أن خيل إليه أن تظاهرات الاحتجاج على زيادة أسعار الجازولين ستعصف بحكومة “البشير” وحلفائه.. وفي تلك الأيام العصيبة خرج د.”غازي صلاح الدين عتباني” و”حسن عثمان رزق” احتجاجاً على قمع السلطات للمتظاهرين.. ولكن خروج “غازي” ، وهو الذي عرف بالثبات في أحداث ومحنة يوليو 1976م، جعل الكثيرين يعتقدون أنه اختار الهروب في يوم الكريهة.. وفي هذه الأيام العصية حيث تحاصر الحكومة مشكلات نقص السيولة، وتعثر التمويل الزراعي، وتدني سعر الجنية السوداني مقابل الدولار الأمريكي.. والحملة الإعلامية في الوسائط الحديثة على النظام والمؤتمر الوطني الذي وقف عاجزاً عن صدها.. وغابت الرؤية السياسية والخطاب الذي يبعث الأمل في نفوس قواعد الحزب وقواعد الحكومة.. في هذه الأيام تُختبَر إرادة العضوية وصدقها، وقدر ثباتها.. لكن “كرم الله عباس الشيخ” الذي حملته الإنقاذ والحركة الإسلامية من مزارع صغير في القضارف ونصبته رئيساً لاتحاد المزارعين ومن ثم رئيساً لاتحاد عام مزارعي السودان.. ورفعته مقاماً أعلى كرئيس للمجلس التشريعي بولاية القضارف.. ثم والياً لأهم ولاية في السودان.. وبعد سنوات طويلة من الخدمة والأخطاء، يعلن “كرم عباس الشيخ” عن تقديم استقالته من المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية.. وذلك خياره وقراره.. لكن “كرم عباس الشيخ” تطاول على الحزب الذي حمله وهناً على وهن ورفعه مقاماً علياً.. وأنكر أفضاله عليه وقال: (لا أحد يمكن أن أسلمه استقالتي). بهذه اللغة المتعالية التي تفتقر إلى الذوق والكياسة تحدث “كرم الله عباس الشيخ” للصحف الصادرة (الخميس) الماضي.. وزعم أن الشيخ “علي عثمان محمد طه”، النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية أرغمه على تقديم استقالته.. وقال في نبرة تشفٍ لا تليق بقيادات في مقامه: (الآن يشرب علي عثمان من الكأس الذي أذاقنا منه).. هل يستطيع السيد “كرم عباس الشيخ” أن يحدث الرأي العام بأمانة عن الأسباب التي دفعت “علي عثمان” أن يطلب منه تقديم استقالته؟؟ حتى لا يقدم إفادات مجروحة في ذمتها.. وتفتقر إلى الموضوعية.. والصدق والأمانة.. والأسباب التي دفعت “علي عثمان محمد طه” إلى طلب استقالة “كرم عباس الشيخ” معلنة للرأي العام، حيث رفض “كرم الله” التعاون مع مؤسسات الدولة.. وافتعل مشكلات مع الواجهات والقوات النظامية وأخلى مكتب الوالي بدعوى تحويله إلى مستشفى ونقل كل نشاطه كوالي لبيته الخاص.. وتفاقمت في عهده قضايا نقص الخدمات.. وظل يتحدث بلهجة المعارضة لا بلسان رجل الدولة الذي لا يبكي مع الرعية ولكنه يمسح دموع الباكيات.. تبدى في فترة “كرم الله عباس” عجز القضارف عن فعل أي شيء.. ووجد الشيخ “علي عثمان” أن بقاء الرجل في منصبه يمثل خطراً على الدولة.. واحتراماً لشعبيته في القضارف المتفق عليها طلب منه تقديم استقالته، ولزم الصمت منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، ليخرج أخيراً بحديثه المنشور في صحف الخرطوم ،وهو يمتن على الحزب الذي جعل منه اسماً في الخارطة السياسية. وبعد مغادرة “كرم الله” لأسوار الوطني يقدم نصحاً في غير مكانه بدعوة الرئيس “عمر البشير” لخوض الانتخابات القادمة مستقلاً؟؟ كيف يستقيل رئيس حزب كبير حكم السودان (30) عاماً ويترك قاعدته التي شيدها بليل الأسى ومُر الذكريات ، كما يقول أستاذ الجيل “حسين خوجلي” ويبحث عن قواعد ليست قواعده؟؟ و”كرم الله عباس” الذي يعدّ من أكثر قيادات ولاية القضارف شعبية ، ويحظى باحترام وسط مكونات الولاية إذا خاض الانتخابات القادمة من موقع المستقلين، سيجد نفسه خارج المؤسسات ،ولن يستطيع منافسة “التجاني سليمان نوح” داخل القضارف ،دعك من “ياسر يوسف” الذي يمثل القضارف الآن في منصب الوالي!! وكان حرياً بالسيد “كرم الله عباس” أن يتعلم من اللواء “الهادي بشرى” كيف يحترم السياسي تاريخه ويرفض الحديث بسوء عن رفاق الدرب وزملاء الكفاح.. واللواء “بشرى” حينما وضع السلاح وعاد للخرطوم وجه إليه الصحافيون أسئلة عن أوضاع المعارضة التي تركها وعاد للخرطوم، فقال عبارته الذهبية (لن أبصق على تاريخي).. ترك “الهادي بشرى” المعارضة، ولم يتحدث عن الرفاق بسوء.. ولذلك حظي باحترام القادم إليهم.. والخارج من سربهم.. لكن “كرم الله عباس” اختار الكلام (الفسل) وقديماً قال شاعر بدوي من بادية البطانة: الزين مو فسل والفسل ما زين والجنس الرخيص ما بنفعو التزيين والدخل البطون ما بتقطعو السكين وكان حرياً بالسيد “كرم الله” احترام تاريخه والرجال الذين تقاسم معهم (الملح والملاح).. ولأهلنا البقارة في بادية كردفان، مثل بليغ يقول (خَلّك كلمة يوم الغلاط تلقاها).. فلماذا لا يترك “كرم الله عباس” كلمة قد يحتاج لها في مقبل الأيام؟؟ وكثيرون هم الذين خرجوا من أحزابهم وعادوا إليها.. والأيام بين الناس دول.. ومن سرّه زمن ساءته أزمان.