( 1 ) إذا كان عبد الرحمن الريح يشكل الجسر الذي عبرت به ومعه الأغنية السودانية ، من شكلها الموسيقي البدائي الخجول والمتمثل في أغاني الحقيبة ، إلى مرحلة التشكيل الغنائي والموسيقي الذي يستوعب أنماطا شتى من الآلات الموسيقية ، فكاكا من إسار \"الرق\" ، و تصفيق \"الشيالين\" ، وطمبرتهم ، إن جاز الوصف ، فإن عثمان حسين يشكل مرحلة جديدة و متقدمة دون شك . . سبقه قليلا في الإنطلاق ، ابراهيم الكاشف . . و إبراهيم عوض ، و كان انطلاقا جريئا بالأغنية السودانية ، لتكون التعبير الصادق عن آمال و أحلام شباب جيل الخمسينات والستينات . كانت الحقيبة في نظري ، نتاج جيل منتم لمجتمع يوصف بالتقليدية ، لم يخرج بعد من بداوته الفطرية .. رزحت الحقيبة في التعبير البطيء الخجول، والترميز المتعمد، بالدرجة التي لا تعكر هدوء المجتمع الأبوي ، الموغل في تعظيم سطوة قيم القبيلة ، وسلطان كبير العائلة.. ذلك مجتمع في احتفالاته ، تجلس الفتيات وظهورهن إلى الفنان المغني.. و كان شعراء تلك الحقبة ، من أضراب العبادي و علي المساح وود الرضي وأبي صلاح ، يتحايلون تحايلا بليغا ليكتبوا لنا شعرا مرهفا .. من نوع : سيدة و جمالها فريد خلقوها زي ما تريد . . . أما مرحلة الخمسينات ، فقد برز فيها إبراهيم الكاشف وإبراهيم عوض وعبد الرحمن الريح ووردي ، وأضرابهم .. رموز النقلة الكبرى ، من أغنية الحقيبة المغلفة بالإشارة والترميز ، إلى أغنية المدينة الأمدرمانية، التي تستجيب لأسلوب حياة فيه بعض انفتاح ، فكانت هذه الجدة التي نراها في اللغة المبتكرة والتي يكتب بها شعراء المدينة ، والأداء الموسيقي الجديد ، المتأثر برياح الفن و الثقافة القادمة من الشمال . . . ( 2 ) ثم جاء عثمان حسين . . لا أؤرخ لك لعثمان . . لكنه ، مع توأم روحه بازرعة ، شكلا ثنائيا جريئاً ، متحديا . وكان في شعر بازرعة وغناء عثمان آنذاك، مرافقة حذرة للتغييرات الاجتماعية التي كانت تعتري مجتمع المدينة في أواسط السودان. إن \"القبلة السكرى\"، والتي كتبها بازرعة وهو طالب في المرحلة الثانوية، كما قال عثمان، شكلت محطة رئيسة لقياس ترمومتر التحول الاجتماعي والثقافي ، في مجتمع المدينة النامي وقتذاك. ضاق صدر \"طالبان\" ذلك الزمان البعيد، فأوعزوا لإدارة الإذاعة السودانية ، وهي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها فن الغناء وقتذاك ، أن تحظر إذاعة أغنية \" القبلة السكرى \". . لكأن الفاحشة ستشيع من محض أغنية .. ! كلا ، ليست هذه الأغنية هي الأولى التي تحظر . جرى حظر \"ليالي الغرام\" وفق ما أسرّ لي الراحل في زيارته الأخيرة لعاصمة الضباب، وكان عثمان حسين يترنم ب\"ليالي الغرام\" وهي قصيدة فيها جرأة محببة، و شعرا كذوبا رقيقا. شمل الحظر كذلك \"فتنتي\" للراحل المقيم في شدوه ، أحمد المصطفى . وهكذا فإن لطالبان باكستان وأفغانستان الذين نعرف الآن، جذور قديمة عندنا في سودان الخمسينات ، كما ترى . .! ( 3 ) إن لبازرعة ، سهم معتبر في تشكيل لغة المدينة الأمدرمانية الغنائية ، والارتقاء بها ، اقترابا من اللغة العربية الفصحى .. أما شعره الرقيق ، فهو الأقرب لونا ومزاجاً إلى شعر الراحل العظيم نزار قباني . غير أني مفتون بمعالجة بازرعة للغة المدينة الغنائية ، تلك التي أبدع في تسليسها على لساننا العامي ... ثم أنظر كيف صاغ السفير صلاح احمد لعثمان حسين \" لا وحبك. .\" ، وقد حدثني الراحل في زيارته العلاجية في عاصمة الضباب عام 2004، أنه استجمع لحنها في لندن في \"بيت السودان\" أوائل الستينات ، عند \" روتلاند جيت\" في حي \"نايتسبريدج\" الراقي في قلب لندن. كان صلاح أحمد وقتها يحتضن مايكروفون ال\"بي بي سي\" في لندن، قبل أن تختطفه الدبلوماسية، فكأنها اختطفت أيضا شاعريته، فيعرفه أكثرنا سفيراً، ونكاد ننسى أنه ذلك الشاعر الرقيق الذي كتب لأحمد المصطفى ولعثمان جميل أغانيهما. أستذكر كيف كنا نستمتع في دور السينما أوائل الستينات بمشاهدة الشريط السينمائي الذي يصور أغنية \"لا وحبك\"، وقت أن كان الغناء يصاحب القصص السينمائية المصرية ، لكن كان عثمان حسين يبتدع شيئاً جديداً ، هو \"الفيديو كليب\" الذي نعرفه اليوم . لبازرعة ولصلاح أحمد الفضل الكبير في تطويع الفصحي و تزويجها بعاميتنا السائدة في لغة المدينة الآن .اقرأ معي تعابير مثل : \" أصف حسنك..\" و: \" تغريني بحنانك.. \" ، و\"عشقتك وقالو لي عشقك حرام\" ، ألا ترى معي أن في هذه اللغة الجديدة ، سمات لم نتعود سماعها في عامية أواسط السودان التي سادت في أربعينات وخمسينات القرن الماضي ؟ ثم استمع أيضا لعثمان يطربك : كيف لا أعشق جمالك ما رأت عيناي مثالك إن في لغة بازرعة طفرات جريئة ، شكلاً وموضوعا . فمن تجرأ غيره ليكتب عن قبلة سكرى . .؟ ثم أنظر إلى عثمان ، يفيض أداؤه لأشعار بازرعة عذوبة ، فيضفي عليها رقة على الرقة التي فيها، ورشاقة في اللحن توازي رهافة شعر بازرعة ، فلا تكاد تستبين ، أيهما خلد الآخر : الشعر الرشيق أم الأداء الخلاق . . ؟ أم أن لذلك كله صلة بجنوح كليهما نحو كسر الرتابة الاجتماعية التي وسمت أسلوب الحياة ذلك الزمان، وفي أخذهما أخذا سمحاً ، من التراث والتقليد ، دون إلغائه أو إهماله ، ثم التدرج به نحو تجويد جريء ، يتسق وروح أسلوب الحياة المتفتح ، في سنوات الستينات ، من القرن الذي مضى . . ؟ كان عثمان حسين يبني ولم يكن يهدم . كان يرسم موسيقاه على نسق جديد ونفسٍ جديد، فكان مجدداً في الكلمات التي اختار كما في الموسيقى التي رسم .. ( 4 ) ما كان عثمان حسين، بعيداً عن دوائر ومراكز الإبداع التي انداحت في المدن السودانية ، وأولها مدينة أمدرمان . . إن ندوة الأستاذ المرحوم عبد الله حامد الأمين ، في مدينة أمدرمان في ستينات القرن الماضي، شكلت مزاجا إبداعيا ، في تلكم الفترة المبكرة ، وانتمى عثمان حسين إليها ، ومعه لفيف من الفنانين والأدباء . . من محراب العظيم ، حبيس الإعاقة الخلاقة ، عبد الله حامد الأمين، خرجت فكرة أداء عثمان المميز، لحناً وموسيقى وغناءا ، لرائعة التجاني يوسف بشير، \"في محراب النيل\" . قال عثمان أنه تهيب بداية معالجة هذه القصيدة الرائعة فهي مع قافيتها - الكاف الساكنة - توحي إيحاءاً جلياً بالتمهل في الإنسياب ، لا تخطئه أذن موسيقية مرهفة . . حضنتكَ الأملاك في جنّة ِ الخُلد ورقّتْ على وَضِيءِ عُبَابِك وأمدّتْ عليْكَ أجنِحةً خُضرا وَأضفَتْ ثيابَها في رِحَابِك فتحَدّرت في الزمانِ وأفرغت على الشرقِ جنّة من رضابك بين أحضَانِكَ العِرا ض وفي كَفيْك تاريخُهُ وَتحتَ ثيَابِك ذلك هو النيل المتمهل في سيمفونية انسيابه شمالا ، ولكن تطويع القصيد الرصين ، إلى جمل موسيقية معبرة، وإلى أداءِ مرهفٍ ، من طرف عثمان حسين ، جعل من \"محراب النيل\" ، قمة توازي عند المقارنة ،موسيقى \"النهر الخالد \" لعبقري الموسيقى العربية محمد عبد الوهاب ، أو قل تفوقت عليها، بما جاء من التجاني . لقد أصابت \"ندوة أمدرمان \" ، باقتراحها على عثمان حسين ، قصيدة التجاني العظيمة،والرسالة التي تصل إلى الذائقة الموسيقية المصرية، هي أن للسودان في النيل ، قصيداً وأداءاً وموسيقى ، وليس كما أراد عبد الوهاب -على عبقريته - أن يكون النيل عنده ، لحناً موسيقيا مجردا ، خالٍ من الكلام المموسق. . . إن عثمان عندي، هو جوهرة تاج الستينات في الغناء ، ولبازرعة في ذلك سهم وأيّ سهم . . لعثمان بريقه المميز ، ورصانته اللافتة ، وله الصوت الدفيء، المشبع بعواطف وحميمية طاغية .. ولعل تلك هي سمة من سمات تلك السنوات الذهبية التي عبر فيها شعراء ومغنون عن وجدان الأمة وهو عجينة تتشكل على ، في سوداننا الحبيب . . غير أني لن أوفي عثمان ، كامل حقه ، فذلك يقصر دونه قلمي ، وتقل فيه خبرة لا أدعيها . لربما يفوقني حبا لعثمان بعض المتخصصين من أهل الموسيقى . أعرف عن الصديق العزيز البروف جعفر ميرغني ولعه الكبير بفن عثمان ، وليته يستكتب قريحته فيزيدنا معرفة بأسرار فن عثمان حسين . ( 5 ) هذه خاطرات كتبت جلّها حين قدم الراحل عثمان حسين ، إلى لندن أواخر عام 2003. . . جاءها زائراً مستشفيا ، ولكنه آثر أن يتيح لنا سماع بعض روائعه، فسعدنا السعادة كلها ، بسماع صوته الشجيّ ، الذي ألفناه ، فأطربنا ، بعد سنوات من صمت ٍ اختاره طائعا ، وربما محتجاً في صمته على ما لحق بالفن الغنائي وأهله بعض الأذى ، وقد سمعت منه أن رحيل الفنان الراحل خوجلي عثمان شهيداً ، سجل منعطفا مؤثراً في مسيرته هو شخصيا وفي مسيرة فن الغناء في السودان. غادر لندن راضياً وقتذاك، وقد طمأنه الأطباء ، ولكن القدر أبى أن يطيل بقاءه بيننا ورحلت روحه إلى بارئها في عام 2008. في ذكرى الرحيل الثانية، يظل مكانه خاليا ولكنه مليء بشجنه وشدوه ، بربيع دنياه وعشرة أيامه الطيبة ، بقسَمِهِ الجميل بمحبّه . أجل رحل عثمان ولكن سيفتقده سودانه الذي عشق ، دون ضوضاء . . وأرضه الطيبة التي طالما تغنى بها و لها . . أيها الراحل العظيم ، نم هانئا ، فأنت بيننا مقيم بما تركت من أثرٍ لا يمحى...... الخرطوم - يونيو 2010