هناك فرق القرقوش وملامح أخرى! منى أبو زيد تستمع إلى الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي وهو يتحدث عن طفولته في الصعيد.. كيف ركض عاريًا.. وسار حافيًا.. اصطاد السمك.. و مارس رعي الغنم.. وباع واشترى.. وفهم الحياة.. وذاب في الطبيعة.. واستغرق في تأمل معجزات هذا الكون الفسيح وهو بعد طفل صغير! تقترب من شخصيات قصائده الحقيقية من (فاطنة قنديل).. و(ست أبوها).. و(يامنة).. إلى الشيخ (الأبنودي).. فتستوقفك ملامح التطابق المدهشة بين حكايات صعيد مصر وملامح يوميات (شمالية) السودان! في كتاب من ثلاثة أجزاء باسم (أيامي الحلوة) يحكي الرجل عن رعيه للغنم.. وعن بيعه للقرض وهو بعد طفل صغير.. وعن (البتَّاوة) زوادة نهارات الرعي الشاقة.. الطويلة.. وأقسى وجبة يمكنك التعامل معها.. أو الوقوف على وصفة إعدادها الشاقة المرهقة! هي نوع من الخبز المجفف الصلب الذي يشبه القنابل.. يُصنع من دقيق الذرة النيلية فتصبح قشرتها الخارجية بعد خبزها أقسى من ملمس قنبلة يدوية.. وهو يتخذ شكل القنبلة تماماً بسبب أصابع ست البيت التي تنطبع صورتها على سطحه قبل أن يدخل الفرن.. وما إن يخرج حتى تأخذ شكل القنابل إياه .. فلا ينقصها بعد ذلك إلا أن يُنزع عنها فتيل التفجير! لكن أيدي رعاة الغنم الصغار تستعين على قسوة تلك الوجبة القاسية بصبر الأطفال وحماسة الجوع الكافر.. فيحفرون بأصابعهم في قممها الصلبة دوائر صغيرة.. ثم يخلعونها عن بقية الجسم الصلب.. يضعونها جانباً.. كما الغطاء! ثم.. يُخرجون فتات الخبز القاسي ويحفظونه في حجورهم ويلفون ثيابهم حوله في حرص عظيم.. قبل أن يتوجه الواحد منهم إلى أقرب عنزة.. ويملأ حفرة (البتَّاوة) بلبنها الحار.. بعدها يملأون فجوات الخبز العجيب بالفتات ثم يُحكمون إغلاق الغطاء الصلب! كلا لم تنته الوصفة بعد! .. فالوجبة لا يزال أمامها الكثير.. يضع كل واحد منهم وجبته الديناميتية على فرع شجرة حتى (يضربها) الهواء.. فيمتص الغلاف اللبن ويتشقق.. عندها يحصل كل واحد منهم على ساندوتش لبن..! نهاية الوصفة تبدو محبطة ولا تستحق عناء إعداد تلك الوجبة الشاقة لكن الرجل يقول إنه لم لم يتذوق طوال عمره حتى الآن ألذ وأشهى من ذلك السندوتش العجيب! وحتى هذه – أي بتاوة صعيد مصر عندنا في (شمالية) السودان ما يبزها قساوة.. إنه (قرقوش) البلد (عجينة مخمرة من الدقيق والماء تخبز في درجة حرارة عالية.. وتتحول بمجرد خروجها من الفرن إلى ألواح صلبة تشبه المواسير.. تُغمس في الشاي أو اللبن لدقائق قبل أن تلين.. أما النتيجة فساندوتش لبن مثل بتاوة الأبنودي! هل صادفت في حياتك إجماعًَا بين شعبين على مثل هذه الوجبة الديناميتية؟! .. مع حكاية البتاوة والقرقوش تحديداً سوف تشعر بسذاجة التعويل الشعبي على مبدأ سياسي مثل ترسيم الحدود بين دول ذات أعراق وعلاقات متداخلة.. وثقافات غذائية بصلابة البتاوة والقرقوش! التيار