روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طقوس القراءة.!ا
نشر في الراكوبة يوم 08 - 10 - 2010


طقوس القراءة!ا
عبدالغني كرم الله
[email protected]
23 أبريل اليوم العالمي للكتاب
(1)
غريبة هي القراءة!!..
فحين أرى حبوبتي، وهي تتصفح أي كتاب (وهي ترى حروف ملتوية تتخذ أشكالاً سريالية غريبة، أ، ش، ظ، ن، ي، a، b، w، وتلتصق هذه الحروف لتكون كلمات، هي أكثر غرابة أيضاً)، تمرر نظرها، لهذه الخربشة، ولا تثير في ذهنها أي شئ، سوى تصور (سبحان من يضع سره في أضعف خلقه)، وهي تراني طوال اليوم، أكاد أحشر رأسي بين ضفتي الكتاب، دون كلل أو ملل، ولسانها حالها يتساءل (ياربي الخربشة والرسومات دي، فيها شنو، تخلى الجنى ده الفطور ينساهو، وأطرش تب، صوت الرعد مايسمعو)..
ما أعجب ذلك، ماذا تخفي الحروف، بأشكالها التي تختلف من أمة، وأخرى؟ معان واحدة، في عدة لبوس؟ وماذا تعني لحبوبتي الأمية، سوى أشكال، ورسومات، مثل خربشة الأطفال، هذه الديدان السوداء (س، ب، ع، و، ر)، ماذا تضمر في صمتها العجيب، حتى الرعد والبراكين، وصوت الوتر، تخبئه في رحمها الساكن، وتغني في سكينتها، لذاتها، وهي تهمس (حتى التواراة، والإنجيل، وبوح قيس، وإرتباك سقراط الذكي، وسعي ابن بطوطة، بين جوانحي، مبان، ومعان)، ما أغربها من حاو، لا يدرك مافي جرابه ملاك الموت، فرقة ليلى، لاتزال تورد خدها في شعر قيس..
وللحق هي أضعف الخلق، وأفتكهم، كم أعجب للغة الهندية، والسيرلانكية، حين أرى أحد الهنود وهو يقرأ وبإمعان في أحد المقاهي، هذه الجرائد، حروف صامتة، سوداء، تتلوى، وتنثني، كما أراد لها الإرث الهندي، وعبقريته، وفنه، وتفرده، وسكب كل خمره فيها، وأنا أرها (كحبوبتي)، ديدان سوداء، تتلوى، وتنثني، وتنام بشكل أفقي على سرير الصفحة!!..
غريبة فعلاً.. هي القراءة!!
مجرد حروف سوداء تتلاصق مع بعضها، فتصرخ، وتغرد، وترعد، دون أن تفتح فمها، «سبحان الله»، تقع العين على هذه الصفحات. ثم يصيغ العقل عوالم لا حد لها، أثارتها هذه الحروب النائمة، كالقبور، على سرير الصفحة، وبهدوء تام..
(أهناك حياة في القبور، إذن!!)، في صمتها، كالحروف. وهي الأخرى، تنام على سرير الأرض الحنون؟، القراءة هي عمل خاص، ذاتي، هي الاستغراق مع الخيال والذكرى معاً وفي وقت واحد، لا شأن للقراءة بالعوالم الخارجية، هي شأن ذاتي، كالتعري، كالخواطر، لا يسمعها سواك، هي الإكسير، قد تنسب لليالي العباسية، وأساطير اليونان، قد تبرد أطرافك في عز الصيف، وتتجول في مدينة اندثرت، سوى في كتاب (عجائب الأمصار، وتحفة النظار)،. لإبن بطوطة!!.. كم لهذه الحروف من ذاكرة حديدية، حكايات كانتر بري، كتاب الانجيل، قصائد أبوالعتاهية، تحفظها على ظهر قلب، تحفظها في صمتها الأبدي، في تلكم الحروف الجميلة الأشكال (أ، ب، ي F, V,، ي، س، ش)..
مالك بتبكي!!؟.. (هكذا تسألني أمي، وأنا صبي صغير، كنت أقرأ في جين اير، وأتصفح صور الممرضة المتفانية، في صالوننا الطيني)!!.. أجي، بتضحك براك، جنيت (تصيح نادية بنت أخيو وأنا أقرأ دون كيشوت، في صالون معلقة عليه صورة أبي، وآية الكرسي، بامتداد ناصر)!!
أتذكرون أو خجل أصابكم؟..
(نجيب محفوظ قليل أدب)، هكذا قلت لنفسي، وأنا أقرأ في صالون طيني بسيط (زقاق المدق)، كأني أتعرى في ميدان المولد، وأنا الفتى الصغير، المؤدب، وكنت كمن يتلصص على غنج عجيب، في ذلك الزقاق السهير، وأسمع وشوشة خلخال تلكم المغناج الساحرة، وخواطري تجري هنا، وهناك (ياربي نجيب ده ماعندو بنات)، كنت أشعر وكأن أختي علوية تراني، فما أغرب طقوس القراءة، تتداخل بيئة العالم المقروء، مع بيئتك، مثل بخور ونسيم، فيتشابه الأمر عليك.
وبتأثير نجيب محفوظ، شعرت النفس القارئة،، أن الأدب، يعني بتصوير المجمتع، كماهو، وليس كما نريد، وتعلمنا، أن نمكر، في تسيطر الإنشاء المدرسية، وأن نمكر، ونقول ما نريد، عبر أقنعة، هي شخوص قصصك (لا أدري لم امتعض الناس من اولاد حارتنا \"فقط\" فقصة نجيب النوفيلا \"رحلة ابن فطومة\"' أشد سخرية من هوس العقائد، وعبر شخوصها، قال مالذ وطب، وهو بعيد عن سيف \"الردة\" الشهيرة، في أدبنا المنكوب..
وثاني خجل، أعترى القلب، كان بسبب المسلسلات المصرية، حين يمد العاشق يديه، ويداعب يد حبيته، فوق الفوطة الحمراء، كنت أنظر لبنات قريتي، المتقرفصات حول التلفزيون الوحيد، فأجدهن أجمعين، نظرن للأرض، وتلاعبت أ ناملهم بالتراب، وارتسم أرق خجل في الكون على وجوههن، فكان هو الأخر، مسلسل واقعي، ألطف، وأعمق، وارق، من خجل الممثلة المفتعلة في الشاشة البيضاء والسوداء..
هل بكيتم بحرقة على مدام بوفاري، وقد خدعها حبيبها، في مزحة، وقال لها بأنه سافر، حين هرعت لغرفته، ولم يفتح الباب، ووجدت رسالته \"لقد سافرت\"، في يوم مطير، وجلست تبكي عند عتبة الباب، مع السماء، والحبيب يراقبها من عل، في أروع وصف للإخلاص، وكانت اساريرها، وهي تبكي، تفوح بمحبة، لو بثت على الخلائق، لرعت الذئاب مع الحملان، ولعب الأطفال مع الحيات، ولا يبزها في السحر، سواء تلكم الفتيات، أمام التلفاز، في قريتي، والأنامل التي داعبت بعضها، في شعاع شاعري، يبرق حين تتلامس الأنامل الولهى، في الواقع، أو الخيال..
ما أعجبك أيتها القراءة..
بساط سحري، يسافر بك، للأمس، للأمس البعيد، وللغد الأبعد، ولبلدان بعيدة عنك، وعن إرثك، وعاداتك، (حين ماتت زوجة السندباد، شرع الناس في دفنه معها، مغامرة أن تندس في أديم ثقافي غريب)، وحين جاع أيضاً، في تلكم الجزيرة الصغيرة، أشعل السندباد النار، فتحركت الجزيرة به، وغاصت، لأنها لم تكن سوى حوت ضخم، آذته نار الحطب، التي أشعلها السندباد الجائع!!
حين أشرع في القراءة، أعد أدواتي، أدوات العمل، فلاح محب، وحقل حلوب، (قلم رصاص، وقلم فسفوري، وكراس)، كي أدون الفقرات التي تسحرني، وكي ألون الصفحات التي تشدني باللون الفسفوري، كي أرجع إليها في حزني القادم، أحياناً أتكاسل للوصول لنهاية الكتاب، كي لا أخرج من دفتي الجنة، حب التسكع بمهل فيه، إن كان شيقاً، كتاب (الرجل الذي مات مرتين)، لجورج أمادو قرأته في أسبوع، وهو لا يتجاوز الثمانين صفحة صغيرة، مجرد ساعة تكفي لالتهامه، ولكن حلاوته ونشوته، تستحق الإبطاء، بل التوقف، تحت شجرته الوارفة، كي أستجير من وعثاء السفر، وهجير الحياة الماثلة، والمادية، البغيضة، كنت آوي للكتاب (كعش، كمحراب، كصدر حنون، كحضن، كقبر)!!..
المسافة بين بيت أختي فاطمة (امتداد ناصر، مربع 6)، ومكتبة (الموعد)، ببري، مسافة أكثر من كيلو ونصف الكيلو، ونحن أطفال، نشد الرحال، ومعي جماع ابن أختي، في رمضاء وحر، كي نشتري الألغاز، ونلعب القرعة في من يقرأه أولاً، ويقسم من يقرأه أولاً أن لا يخبرني بشئ، من حل اللغز، بيد المهندس تختخ!! الولد السمين المحبوب، أو عاطف ونوسة، والشاويش علي.. ومع هذا كنا نرى الطاحونة بعيدة، حين نرسل لها، وهي لا تبعد سوى شارعين من البيت (لو تعلق قلب رجل بالثريا لنالها)، داخلنا معجزة ، حين نعشق، أو نرغب، إنه الحج بعينه، لكل زمان، ومكان، ببراق القراءة الأصيلة.
أسبوع كامل لم أخرج من البيت، لم أكن مصاباً بالملاريا، ولا بالحمى، ولكنها (الثلاثية)، بين القصرين والسكرية وقصر الشوق، لا شئ يحبسني في البيت سوى المرض، والقراءة.. أو إذا جاءت فتاة جميلة، لزيارة أخواتي!!..
كم قبلت شفاه بعيدة عني، قبلت زهرة في بنسيون ميرامار، وأحببت جين اير، ومريديس، وامتعض قلبي لمأساة (الغريب، السيد ميرسو)، بل للبير كامو نفسه، فكل إناء بما فيه ينضح.. لقد أحسست بالبير كامو حين كان يكتب، هو وليس بطله المسكين، المنزوي (من عالم مادي بغيض)!!، بل رأيت كافكا وميرسو وكامو، شخصاً واحداً، الكارما الهندي، تؤكد هذا، أن للشخص حيوات عدة (تقمص)، وعودة أبدية.
أحياناً، أحس بظمأ لقراءة (خيري شلبي)، خيري شلبي فقط.. أحس بشوق لعوالمه فقط، كما تحس بشوق لصديق معين، في وقت معين، لن يجدي معه أي صديق سواه، (بابا شلبي، وبس)، طيبته، أبطاله الفقراء المديونون، ووصفه الوئيد، السلسل للبيوت والروائح، فأبحث في مكتبتي عن كتبه، أقلب الرفوف، يقابلني كتاب (الألف) لبورخيس، فأزيحه، والطيب صالح، وببرود أزيحهم، حتى أعثر على(وكالة عطية)، ثم أمضي للسرير، وكأنني خبأت المصباح السحري في جيبي!!،، حين أغرق في عوالمه، أجزم وأقسم متعصباً بأنه: أعظم روائي!!
ثم يدور فلك مزاجي، ليتغير الطالع، والسعد والفرح، وينتقل مزاجي لفصل آخر من فصول العشق، فاشتهي قراءة كتب الرحلات، مثل امرأة حامل تحن للطين، من يرفض طلبها؟ (تحفة النظار في عجائب الأمصار)، كتاب ضخم، أجده بيسر في المكتبة.
ثم استلقي بدفء، وقد خرجت من هذا العالم وخرائطه وشعوبه ومدنه، وذهبت (ببراق القراءة)، لعوالم ابن بطوطة، وأقسم صادقاً حينه، بأنه أعظم كتاب، «أعظم أدب هو أدب الرحلات»..
القصة كلام فارغ، فالمسرح هو الأصل، الحوار والجدل هو أصل الإنسان، منذ سقراط وإلى (توفيق الحكيم، وجوته، وتيشكوف، وبريخت،)!!.
لم تعد القراءة للتسلية، صارت أسئلة في الذات... حمى شك، ويقين، وإرتباك داخلي لذيذ..
أين الماضي، والمستقبل، هل الحياة هي هذه اللحظة الحاضرة، الرقيقة، الصغيرة، فقط؟..
وكينونة الحلم تفسد أي تصور للحتمية، فالحياة قد تكون حلماً، كابوساً، طويلاً، نصحو كما يقول بورخيس (فراشة حلمت بأنها إنسان، أم إنسان حلم بأنه فراشة).. من أنت؟ قد تصحوين إنساناً سوياً (أيتها الفراشة الحالمة).
هناك كتاب أغبطهم على صدقهم، على شجاعتهم، يطرحون حديث الخواطر، أصلهم، فصلهم، سيرتهم، «خبزهم الحافي»، جرأة محببة، وطفولية، وصادقة، يزيلون الأقنعة الكاذبة، يتوغلون أكثر في المكون النفسي، والثقافي للإنسان، لذا تم تجريمهم، وشنقهم، وإقصاءهم، هم رسل،. رسل القلم والعقل والقلب... يغوصون أكثر في الأشياء، كالضوء، كالتنويم المغناطيسي، كالشعر، كالخمر، يحركون الموتى، وينشرون السحب في الحقول الجدباء، يصنعون الإكسير، ويضيئون الفانوس السحري بكل النفوس، يزخرفون الحياة بألوان ساحرة، وكأن هناك عشرات الحيوات في هذه الحياة، نظرهم أقوى من أشعة إكس، ومن جاما، ومن.. ومن.. وكأنهم خلقوا من مادة الخيال، تلك المادة الرخوة، والهشة، والسريعة، أسرع من الضوء، أسرع من الفكر، تجوب العالم في لمحة عين، بل تجوب الماضي والمستقبل كله في لمح العين، ترى عوالم لم تأت بعد، وتتذكر حيوات قديمة، قبل خلق اللغة، والعادات والأديان، ولأنه هيناً، ليناً، كطين أسطوري، بمقدورك أن تخلق منها نعجةً، أو دجاجةً، أو قارةً، أو نهداً...
أحياناً، استسلم للكتاب، وللقصة ولوقائعها، بدون اعتراض، أعمى يقوده مؤلف، لمرامي يريدها هو، ولكن حين يكون عقلي نشطاً، وخيالي محلقاً، واخترع نهايات ومسالك للقصة لا علاقة لها بمجريات القصة أمامي، بيدي، لا بيد المؤلف (ألم يمت المؤلف)، ويظل المتلقي هو المبدع الأخير، ويخضع النص لتأويلاته، بل أغراضه، الدنيئة، والخسيسة، والثمينة.
أشهى الكتب وأعمقها معروضة في تراب وارصفة الجامع الكبير، بعد أن طردتها الرقابة من رفوف المكتبات وأفسحت لمجلات سيدتي، سيد قطب وفتاوي باهتة الباب والمشراع والتلفاز.
ياله من معراج، ببراق القراءة!!..
كم غليظ حجاب القارئ حين يتأمل النص، بدل أن يذوب فيه، فثمة نص، ثمة حياة، متخيلة، واقعية فقط، تجري أمامي كنهر، أنت ميرسو، أنت دون كيشوت، أنت لحلاج، «يمكنك أن تتذوق تمثله للتجلي، وما يخفق فيه قلبه العظيم من محبة، وبصيرته، من صفاء»، لا.. إنها ليست قراءة.. إنها قبلة.. (لا يسعني ملك مقرب، أو نبي مرسل)،. إنها قراءة الكتاب الأعظم، هذا الوجود المترامي الشاعرية، والغموض، والدقة.. تحس بالنص، كما تحس الأنامل بالماء الدافئ، البارد، العذب.. أبعد قليلاً عن حجاب النور، حجاب الوعي الذاتي، الانسجام مع جزئيات النص، مع روح النص، سلوك طريق النص، إنه يمضي لهناك، وأنت معه، ريشة في مهب الريح، أن النص يدلكك، تشعر بقشعريرة، تنويم في حيواته، فناء، فيه، وفيك، معاً.. (متفرج محايد)!! الانسجام مع النص، لا شئ حولي، سوى دنيا النص، محوت كل شئ، حتى الليل الذي يلفني، تحول لنهار، بل شارع معين، وضيق، (صياديون في شارع ضيق)، لجبرا، أتصبب عرقاً، وقد تعجب النسيم العليل، ومعه تعجب القمر، من «شمس في عتمة الليل»، فأنا لست قارئاً، أنا بطل النص، انفعالات البطل تخرج من جوارحي، حقيقة من لحم ودم، تقوم القراءة على التقمص، تقمص الشخصيات (كم أرثي لمن يقرأ «الأبلة»، ثم يمضي لداره، ولم تحط الفراشات والطيور على كتفه)، لقد فشل في القراءة، في التعدد، والإطلاق..
عصارة الكاتب، كل شهده تمصه بصيرتك، تتآخي العقول، وحدة وجود فكرية، عقل هنا، وعقل هناك، خلف حجاب المكان، خلف حجاب الزمان، القراءة هي تكاثر، في ذرات الأثير كلها.، فالطبيعة تكره الفراغ، تكره الموت..
اللغة إشارات، كالشمس، كالعشق، تؤمي لشيء بعيد، ذات غريبة، تسوق خراف الوجود، عصية الفهم، يلفها غموض غريب، شهي، عصى، تأوى كاللغة، بل أنضر، وأعمق.. الكثير من الانفعال والفعل والصفة، تتكيء او قل ترقد أو تقف، بلا شكل...
بكى ماركيز (ساعتين)، لموت بطله، القدر الدرامي للكتابة ينتصر على قدر الكاتب، للخيال سلطة، كالرؤية تأتي بنفسها، تختار الوقت هي، وشكلها، وجنونها، الاحلام هي التي تختار الوقت، والشكل والروح، والجمال أو القبح، قد تصحو وانفاسك متقطعة، أوتصحو وانت امير، وبطل.. كالاحلام هي الكتابة.. يتدفق الإلهام منك، تنثال الخواطر كأطفال من رحمك، ذهنك، وقلبك معاً، فتتخذ الكتابة شكل جسر بين العاطفة، والفكر أنت الآن، ليست قبيل ان تدخل الكتاب، هناك شخص آخر، ولد داخلك، لن تعبر النهر مرتين، شخوص وحكايات سارت جزء من سيرتك الذاتية، فالقراءة فعل، وحياة وليست تسلية، ويتردد صداها في فعلك الواعي، وغير الواعي، شئت أم أبيت.. أنها سطوة الحروف الصامتة..
حياة الكتاب اكثر غرابة، أكثر صدقاً، مع جنون الحياة وعبقريتها، اقرب للخيال، الكائن الجميل، واقرب للرغبات والاشتهاءات القتيلة، وهي اقرب للصدق، يعني اقرب للطفولة، حيث الحياة منفوخة في كل شيء، فالجبل يخجل، والبحر يقشعر، والبقرة ترسم السحب بذيلها الجميل، وتملأ ضرعها بعصير البرتقال، واللبن، والحنان!!..
القراءة طقس فردي كالحمام، تبكي، تنفعل، تنتصب، تشبق، تضل، تنتشي، مع تلاقح وعيك ووعي الكتاب، مع وحدة وجود بريئة، صامتة، حرة، يتداخل الخيال في ارض واقعك، عم شلبي، شيخ السرد الماهل، الصبور، ساقني معه، لزيارة الوكالة، ومعنا محروس، وشودافي، وفي صحن الوكالة رأيت العجب العجاب، روائح الولاية والمجنون، عم شلبي يحب شودافي، يرسمه بمهل، يبل ريشته ثم يصف حناياه، يصف صوته، نعرته، هفواته، عم شلبي يحب الهفوات، يعشف اندلاق الحياة كجدول وقف عليه حمار بطل (نخلة على الجدول)، والحمار الشبق ينهق غير آبه بمناخ القصة الحزين، عم شلبي صبور في الكتابة، يحب الكتابة، روايته طويلة، ممعنة في التفاصيل، أكثر من صفحة كي يصف المخدة، المحشوة، وكرفستها، ويتكيء عليها محروس، والرائحة التي تتضوع من الغرفة، إنه يكتب من قلب الحدث، إنه يستمتع بالكتابة، ما أسعدك يا عم، تستمتع بها، لأنها واقعك الحقيقي، تجسد في خيالك وذاكرتك الندية عوالم مصر، وخاصة فقرها، ومجونها...
- عبد العظيم..،
- عبد العظيييييييييييييييييييم..
- أجي، ما سامع صراخي ده، ، الولد ما براهو..
هكذا تصيح أمي لأخي وهو قربها في السرير، ولكنه لم يكن معنا، كان هناك، في فندق ميرامار، وهو يحث الخطى لمعرفة من قتل زهرة، أربعة روايات تتشابه، ولا تتشابه، كان نفسه محموماً، وهو يستمع لشهاداتهم، ولم يسمع صراخ أمي قربه، بمقدور أخيلة القصة أن تنتصر على الصوت الواقعي، صوت أمي، كان صوت زهرة، المغناج بين السطور أقوى من صوت أمي الحقيقي، أي عجب هذا، أن يكون صوت الأخيلة، أقوى من صوت الواقع..
(بس)..
همست أمي، ونادتني انا، للذهاب للطاحونة، وللحق غضبت، ولكني لامحال، لا أريد أن يخرج اخي من (بلاد العجائب، بلاد القراءة)، للواقع اليومي!!.
***
وتظل الحروف تتلوى في سرير الصفحة، صامتة مثل أوتار غافية على صدر عود، على مقعد وثير، حين رأه إبراهيم ناجي، أنشد:
آهِ كم من وتر نامَ على
صدرِ عودٍ نومَ غافٍ مطمئنِ
وبهِ شتّى لحون من أسى
وحنينٍ وأنينٍ وتمني
هكذا الحروف، تنام على صدر الصفحة، كالأوتار، وبها شتى لحون، وانين وتمنى!!..
فتحس، بأن هناك ملايين اللغات، وأنا كحبوبتي، أمي، لا أعرف ما ترمي إليه، وإلا كيف ربطت قاطرة الحاضر، رسنها بالغد، وجرت الأمس، كذكرى، وإثارت الغد، كخيال، وكيف تلف الأجرام، حول نفسها، في لعبة طويلة، بلغة وإشارات فوق أفق تصوري، وخيالي..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.