[email protected] حينما يتألم الإنسان يتعلم، وحينها يكون حقا وصدقا كامل الآدمية متسق الإنسانية إذ أنه لم يمر على هذه البسيطة من الآدميين من لم يتألم، ولكن قليلون هم الذين تعلموا من الآلام وحققوا الآمال. حتى صار عظماء الإنسانية وقادتها مضرب مثل في الابتلاءات، فالكل يشير إلى ضُرّ أيوب الذي أصابه وفُتون ومَسّ موسى منذ صغره وعَسّ عيسى ونُواح نوح وخَلل الخليل وحُمّى محمّد عليهم صلوات الله وسلامه. فكلهم وغيرهم من الأنبياء والأتقياء والعظماء الصالحين والعلماء نكبوا في أموالهم وأهلهم وأنفسهم وفكرهم وعقائدهم وأوطانهم، لكنهم صبروا وصدقوا حرصا منهم على الوصول إلى الوعد المرتجى الذي قال به الحكيم: على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ** ويحمد منه الصبر على ما يصيبه فمن قل فيما يرتجيه اصطباره ** لقد قل فيما يلتقيه نصيبه كل الآمال الجسام تعرقلها آلام وتقف العقبات الكؤود أمامها امتحانا لصاحبها وتمحيصا لقدرته على الثبات والصبر فإن لم يتألم حتما لن يتعلم فقد جعل سر الإرتفاع في الإتضاع لذا تجد الذين يتغطرسون على الخلق مع رفعتهم المادية أوضع ما يكونوا أمام الناس معنويا، إذ ينظرون إليهم نظرة الإحتقار والتهكم وتنطبق فيهم قاعدة صاحب الجبل الذي يعتلي القمم فيرى الناس صغار متناسيا أن كل الأمة تراه صغيرا كما هو حال قادتنا الحاكمين في السودان اليوم، ولأن الأمل السوداني صار كبيرا جليلا تعاظمت ابتلاءات الأمة السودانية، فكل الذين يعشقون ثرى هذا الوطن وسكن هواه وجدانهم تجدهم يذوقون مرارة الظلم وذل السجان الذي اغتصب إرادة الشعب لصالح مشروعه الحضاري الهلامي الظلامي، وأزال معالم الحكم الراشد ورسخ مبادئ الحكم الفاسد لتكون المرجعية السياسية لبلاد المليون ميل هي البطش والإذلال والفساد والإفقار وسوء الأخلاق والكذب والشقاق، فقد اشتد البلاء بأهل البلاد أسوة بآبائهم المؤسسين الأوائل حتى بلغ مبلغا عظيما لا تدركه العقول وتعيَ عن حمله الأجساد، فقد حلم السودانيون بأن يكونوا سلة غذاء العالم وعلقوا آمالهم على أرضهم البكر التي لا تنبت إلا طيبا، واستعدوا لتحمل الآلام جميعها من ( التربلة- إلى الحصاد والغربلة). إلاّ أن أهل النظام الإنقلابي اختاروا لهم نوعا أكثر إيلاما من صنوف العذاب، فقد بدلوا كلمة التعمير فصارت تدميرا وأدخلوا الألم في كل النفوس والبيوتات التي تقتات من مشاريع الزراعة بدءا بأصغر المشروعات في ضفاف النيلين الأبيض والأزرق مرورا بالقضارف والشمالية و انتهاء بأضخم مشورع زراعي في إفريقيا مشروع الجزيرة المروية فصار الألم آلاما عديدة فتوقفت وابورات الزراعة وعطلت ماكينات الصناعة ودفنت مصانع الغزل والنسيج واقتلعت قضبان السكك الحديدية وطرد الموظفون والمهندسون والمفتشون والأطباء البياطرة وشرد العمال والصيارفة والمحاسبون والمراجعين وأمناء المخازن من الغيط الذي كانت فيه حرفتهم وهوت إليه أفئدتهم، وبيعت حتى شبابيك وأبواب البني التحتية وغلقت المؤسسات التابعة لهذه المشاريع ولم يتكتفي النظام بكل هذا القدر من الإيلام لزراع الخير بل لاحقهم بسياط القهر والإذلال والسجون إلى أن بلغ مبلغا عظيما باستصدار قانون مشروع الجزيرة للعام 2005م. كل هذه الآلام تحملها إنسان السوداني الكريم رغبة في أن يكون جزاء الإحسان هو الإحسان. لكن لم يكن من النظام إلا أن جازى أهل الإحسان بالذل والحرمان. كذلك هو الألم الذي اعتصر طلاب الجامعات والمؤسسات التعليمية وأساتذتها فبقدر أملهم بأن يكون للسودان اسما أكاديميا ورصيدا من الاختراعات وبراعاته، وتطورا في الاكتشافات وبثا للبحوث وللخبرات إلا أن هذه الآمال أحرقها فتيل النظام الحاكم فحولها من مؤسسات تعليمية إلى سجون تأليمية، إذ صارت القاعات قبورا، والمعامل متاحفا أثرية والورش أوكارا للوطاويط والمشارح بيوتا للأشباح تفوح منها رائحة الفورملين بل حتى الغيط الزراعي لكليات الزراعة بيع لمثتثمرين بأثمان بخسة \"دراهم\" معدودة، ومعامل الحاسوب في عهد العولمة إما متخلفة مخروبة أو قليلة معطوبة، حتى صار الطبيب يتخرج دون أن يأخذ كفايته من كورسات الجراحة والباطنية وغيرها منقطعا إنقطاعا تاما عما يسمى بالقضايا الطبية المستحدثة لدرجة أنك عندما تتحدث عن الموت الدماغي أوالخلايا الجذعية أوالاستنساخ أوغيرها من القضايا يتهمك البعض بأنك نلت علوما طبية في جامعة ما خارج الوطن. ودجنت مؤسساتهم النقابية حتى صارت بمثابة أبواق للنظام وجعلت دور الاتحادات الطلابية مراكزا للهوس الجهادوى وأوكارا للسيخ والأدوات الحربية. كل هذه الآمال المعقودة من هذا الجيل وأهله على التعليم في بلادنا ينبغى عليها أن تنتفض فوق كل هذه الآلام كي ما تعيد سيرة المؤسسات التي يكون فيها التعيين بالكفاءة والبحث والتأهيل والتألق لا بالمحسوبية والولاء والتملق. وحال جامعاتنا يغني الناظر عن السؤال، وما تشريد علمائنا ببعيد. وتألم مرضى السودان حتى وافتهم المنايا في كل منعطف قبل أن يصلوا إلى المشافي إما لبعدها أو تأخر الإسعاف أوعدمها، كل آمالهم علقت على أشياء زهيدة تقي نساءهم آلام الولادات وتوفر لهم الصحة الإنجابية، وتمنع أبناءهم من أوبئة أكل الدهر عليها وشرب أمصالها شبه مجانية وفرها العالم للدول الضعيفة عبر منظمة الصحة العالمية، كلهم يأملون في أن تخلوا هذه البلاد من طواعين العصر وعلى رأسها مرض \"الإيدس\" وتواجه حقيقة استشرائه في البلاد دون دس الرؤس في الرمال والحديث عن دولة الفضيلة التي لا ترتكب فيها رذيلة، وما الأطفال الذين تجود بهم مصارف المياه وبالوعاتها والمشارح وتعج بهم دور الرعاية إلا دليل واضح على ما حل بالبلاد من نكبة صحية، كلنا نأمل في تنفيذ وعود قطعها أهل النظام في حملاتهم الانتخابية بتبني مجانية الصحة إلا أن الألم تضاعف بتضاعف الفاتورة العلاجية، حتى الصروح الصحية التي شيدت بالدمغات (جريح- شهيد) من المواطن السوداني خصصت لأهل الحظوة ممن أنعم عليهم قلم البشير وزمرته. مع ذلك كله سيبقى الألم محفزا للوصول إلى الأمل فعسى ولعل أن تنهض كل الجسوم العليلة المصابة بأمراض عضال أس البلاء فيها النظام الحالي في الخرطوم، عساهم يستجمعون قواهم ويصرخون في وجه هذا الأصم كي يسمعوه أو نقلوا إليه عدواهم فصار مسخا مريضا كَلٌّ على الوطن وأهله. الألم الأكبر هو الذي قتل آمال القوات النظامية السودانية التي كانت تذود عن حما الوطن وتمنح أهله الطمأنينة والسكينة، فقد دمرت الآمال العسكرية في تطوير المؤسسة العسكرية والشرطية القومية السودانية تدريبا وتأهيلا وتسليحا حتى تكون درعا حصيا يقي البلاد ويلات التسلط والتدخل الأجنبي، إلا أن هذا كله استبدل بأن يُسرّح ويطرد أهل العطاء والكفاءة والقوة والفدائية من الخدمة العسكرية دون وجه حق ودون تعويض مجزي حتى اتّهِم هؤلاء بالخيانة وأن فصلهم من الخدمة تم لأنهم ( طابور خامس) فلاذ بعضهم إلى دريكسونات القيادة وصار أخر كمسنجيا وفر منهم كثيرون إلى خارج حدود الوطن، فالقوة النظامية التي دافعت عن حلايب وتحملت الآلام في سبيل الحفاظ عليها ضمن حدود الوطن اليوم تعتصر مرارة الحزن وهي ترى الدرك السحيق الذي وصلت إليه صورة القوة النظامية السودانية التي كانت مضرب المثل في الضبط والربط والإلتزام بأسس العقيدة العسكرية. كل هؤلاء العسكريين والشرطيين لن يتحملوا هذا الألم طويلا وهم يرون الأقدام الأجنبية التي وطأت البلاد رغبة من دعاة السلام ورهبة من قادة النظام. كل هؤلاء لن يروقهم مشهد تمزيق المليون ميل وإعادة سيناريوهات الاحتراب الدامي بين شقي وطن حبيب، فمن منهم سيتحمل إحساس الخيانة للعقيدة التي أقسم بها لحماية هذا الوطن؟؟ ومن منهم سيقدر على كبح جماحة و(حماسه) الفدائي الذي سيثور حتما ضد الطغاة الذين خانوا العقيدة العسكرية ولم يلتزموا بأسسها ضبطا وانضباطا، أفرادا كانوا جنودا، أو جنود صف أو ضباطا؟؟. الآمال كبيرة إلا أن الآلام أعظم وأشد، رغما عن ذلك سوف يخوض أهل السودان هذا المحاص راغبين في شيئن لا ثالث لهما إما نصر للعقيدة والوطن يجنب بلادنا الحروب والشرور وإما خذلان وذل وعار سيكتبه التاريخ وسيخط بدماء تفور وتغلي الآن داخل العروق والأوردة والشرايين. وفي اعتقادي أن هذه الآلام كافية للانعتاق من الشمولية والاستبداد إلى رحاب الديمقراطية والحكم الراشد تحقيقا لآمالنا من رفاه لشعب السودان وحفاظا على أمنه وطمأنينته. فهل أنتم منتهون يا حكام الخرطوم؟؟؟.