بسم الله الرحمن الرحيم ( حليل موسى الوسدوهو الطوب) بقلم : خليفة السمري – المحامي. [email protected] ((اذا فات زمن التحليل والعقل، فلتنفلت العواطف))، قالها الدكتور بركات الحواتي، عبارةً تنم عن حالة حزنٍ وإحباط، وألمٍ وتمزق ، فإن كان ذلك كذلك ،فّلِمَ لا تنفلت العواطف بمناحاتٍ تعتصر القلوب آلماً على إيقاع (القرع) الحزين، ولِمَ لا ننوح ب (حليل موسى ، يا حليل موسى )،ونبكي بحرقة،كما الثكالى مكسورات القلوب، وها هو (موسى) قد توارى من نواظرنا مكفناً بعلم الاستقلال في يوم الاستقلال الأخير، (يوم جانا الحصان فوق ضهروا السرج مقلوب ،حليل موسى الوسدوهو الطوب) ، لكنها الخرطوم يا أحبتي، خرطوم هذا الزمان الأغبر يا حزانى ، دأبها ، أنها لا توقر حرمة الموت ، ولا تأبه لبكاء الباكيين، فقد استفزت مشاعر الجميع في هذا الجو الحزين بأمسياتها الموسيقية ، أو ما أسموه (ليالي الخرطوم الموسيقية)، فقل لي بالله عليك ماذا تقول عن جارٍ يرفع مكبرات الصوت بموسيقى الأفراح الصاخبة، وجاره لم توارى جثته الثرى بعد، وقل لي بالله عليك كيف يكون شعورك إذا ماكان الجار الصاخب هو عمدة الحي ،وربان السفينة.. إنه فعلاً زمن المهازل وانقلاب القيم ...قومٌ يتشاغلون بالليالي الموسيقية الساهرة ،في يومٍ تأسَّى فيه الشعب بقول ابن الرومي: بكاؤكما يشفي، وإن كان لا يجدي ..فجودا فقد أودى نظيركما عندي بُنيَّ الذي أهدته كفاي للثرى .. فيا عزة المَهْدِي، ويا حسرة المُهْدِي ألا قاتل الله المنايا ورميها من القوم حبات القلوب على عمدِ طواه الردى عني،فاضحى مزاره..بعيداً على قربٍ،قريباً على بعدِ لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها ..وأخلفت الآمالُ ما كان من وعدِ . وكنت أظن أن جزعنا يكون في هذا اليوم أعظم من جزع ابن الرومي المكلوم،فابن الرومي لم يقتل بُنَيّّه بيديه، لكن (مفارقنا) بأيدينا ذبحناه من الوريد إلى الوريد، وأبى بعضٌ منا إلا أن يرقص طرباً في يوم الذبح الأليم، يوم أن تمددت أنشدوة المقابر ،أو حديثها - على رأي الشابي- لتملأ أرض المليون ميل حزناً ،يقتل كل الحماس ،ويهزم أحلام المستقبل، وآماله، ووعوده الدافقات ، التي لطالما تغنى بها شاعرنا عبد الواحد عبد الله يوسف، في نشيده (يوم الاستقلال): إني أنا السودان أرض السؤدد... هذي يدي ملأى بألوان الورود قطفتها من معبدي من قلب أفريقيا التي داست حصون المعتدي خطت بعزمِ شعوبها آفاق فجرٍ أوحدِ فأنا بها،وأنا لها،سأكون أول مفتدي. والحقيقة التي لا معدى عنها أن سوداننا فدانا وما فديناه، وحصدنا ثمرة هذا التقصير آلماً وتمزقاً، انتاش نفوسنا جميعا، ولم يفلت منه إلا أصحاب المصالح والأهواء، أو ( ذووا الجلود التخينة) ممن باعوا بسياساتهم وحدة البلاد في سوق نخاسة العبيد من غير أن يرف لهم جفن أو يندى لهم جبين. ومن فرط الأحزان لا الفرح الغامر، لَكَم رأيت عيوناً رقرقت دموعها ، حين صدح وردي بنشيد الاستقلال ( اليوم نرفع راية استقلالنا ..ويسطر التاريخ مولد شعبنا.. يا اخوتي غنوا لنا ..غنوا لنا )، فقطعت علينا العبرات والدموع حديث الاستفتاء الذي كنا نتجاذبه في غربةٍ من أرض الوطن .. إنه فعلاً عام الأحزان .. فقد تشكل وجداننا على وطنٍ (مليون ميل)، وشحذت هذا الواجدان أناشيد خالطت نبضاته ،وأغاني تسربت وسكنت في حناياه منذ زمنٍ بعيد، (من رهيد البردي لوحة ..ومن نخيل \"الباوقة\" طرحة .. ومن \"مريدي\" السمحة نفحة) ،ومع ذلك يريد لنا البعض أن ننكر هذا الوجدان، لأنه في نظره محض عاطفةٍ لا تفيد .. وهل رسالة الإنسان في الحياة كلها إلا صدق عواطف، ونبل مشاعر، وجيشان وجدانٍ يعطي العيش طعمه ، ويسبغ على الوجود معناه ؟ إننا نقول للجفاة الذين سخروا من بكائية الشعب (ونياحه) في يوم الاستقلال الأخير ،ولكل من أنكر عليه عاطفته الصادقة الجياشة تجاه الجنوب..نقول لهم هل الدين ورسالته الإنسانية إلا محض عاطفةٍ تترقى بالإنسان في درجاتٍ أدناها العدل وباقي كمالها مفتوحٌ على الإطلاق؟ وهل بغير العاطفة يحيا الإنسان الإنسان؟ فإن فات (زمن التحليل والعقل) كما قال لنا الدكتور بركات الحواتي، فليدعنا هؤلاء أن نرحل مع عاطفتنا عساها تشفي كربنا، ولعلها تداواي بعضاً من جراحنا التي فتقناها بأيدينا لا بأيدي الغرباء الطامعين، ولا أجد في هذا المقام ما يعبر عن هذا الحزن الذي فشا فينا، وأقام بيننا في هذه الأيام ،سوى الركون إلى تساؤلات أديبنا وشاعرنا محمد عبد الله شمو وقوله: فأنا لست أدري ما الذي يدفعني دفعاً إليك ،و ما الذي يجعلني ابدو حزينا .. حين ارتاد التسكع في مرايا وجنتيك ؟؟..لا عليك فعلى هذى السفوح المطمئنة .. نحن قاتلنا سنيناً وأقتتلنا .. نحن سجلنا التآلف في انفعالات الأجنة .. وأحتوانا البحر والمد يقاوم، والصراع .. يا هذه البنت التي تمتد في دنياي سهلاً .. وربوعاً وبقاع .. ما الذي قد صب في عينيك شيئاً من تراجيديا الصراع .. والمدى يمتد وجدا عابراً هذي المدينة .. خبريني .. ؟؟ هل أنا ابدو حزينا ؟؟ ..هل أنا القاتل والمقتول حيناً ؟؟ والرهينة ؟؟ هل انا البحر الذي لا يأمن الآن السفينة ؟؟ خبئيني بين جدران المسام .. قبليني مرة في كل عام ..فانا اشتاق أن أولد في عينيك طفلا من جديد .. أرتدي اللون البنفسج .. وأعتلي شكل الهوية .. ضيعتني مريم الأخرى سنينا ..في انتظار المجدلية .. آه لو تأتين ..من عميق الموج من صلب المياه كالرحيل .. كالترقب وانتظار المستحيل .. فها هي الارض تغطت بالتعب .. والبحار اتخذت شكل الفراغ .. وأنا مقياس رسمٍ للتواصل والرحيل .. أنا الآن، الترقب .. وانتظار المستحيل . وفي خواتيم فواتحنا على (موسى الوسدوهو الطوب ) ، نسأل الله أن يخرج من صلب ذريته، من يجعل من الترقب الإيجابي واقعا معاشاً ، ومن المستحيل أمراً ممكناً، فلا مستحيل مع عزم الإرادة وصدق النوايا، فنلبكي بصدقٍ وحرقة على ما ضيعناه، عسى أن يكفر الله عنا بذلك سئياتٍ ارتكبناها في حق الوطن الذبيح، ولعل أن يكون في صدق البكاء عظةٌ لنا، تدعونا إلى لملمة شتاتنا، وتحفزنا لانتشال نفوسنا من درك المكايدات السياسية التي قارفناها منذ الاستقلال ،فكانت ثمرتها هذا الحصاد النَكِد، والصاب المر الذي نتجرعه الآن ، ولا نكاد نسيغه، وعزاؤنا أخيراً، أن للمعرفة ثمنها ، وللخبرة ضريبتها، فهلا انتفعنا بذلك في مقبل الأيام، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،