حديث المدينة بيدنا.. لا بيد عمرو..! عثمان ميرغني أكره الكلام الموزون بالكيلو.. ولذلك أكره دائماً الندوات وورش العمل؛ وتلك المناطق المأهولة بالكلام؛ راسخ أننا لا نعرف كيف (نتكلم). لأننا نتكلم (من أجل الكلام) ونفشل في توصيل الفكرة بأقل عدد من الكلمات.. لكن مساء أمس الأول كان استثنائياً.. بدعوة من مركز دراسات المستقبل بالخرطوم.. التقينا بالأستاذ فهمي هويدي الكاتب المصري المعروف.. تحدث لأقل من عشر دقائق لكنها كافية ليلمس بها كل الجروح. فهمي هويدي احتج على الخطاب السياسي في السودان.. خاصة في الجزء المتعلق بتكرار الحديث عن (تطبيق الشريعة الإسلامية).. وقال إن شيوخنا ومنهم القرضاوي قدموا الحريات على الشريعة.. ومثل حديث فهمي هويدي هذا كافٍ ليفتح عليه النيران الصديقة من كل حدب وصوب خاصة في منابر بعض المساجد. فالخطاب السياسي والديني عندنا دائماً مبني على (المصطلحات).. يغرق الناس في (شبر ماء) المصطلح.. لكن مع ذلك أجد نفسي أختلف كثيراً مع فهمي هويدي وكثيرين آخرين يربطون بين ما يجري في جنوب السودان و(مؤامرة أجنبية) من اسرائيل او أمريكا او غيرهما.. الخطأ الذي يقع فيه هؤلاء.. بما فيهم هويدي نفسه.. افتراضهم أن المشكلة الحقيقية هي في وحدة السودان في مقابل انفصال جنوب السودان.. وتلك ليست المشكلة. جارتنا مصر دولة مستقلة ونحن لسنا جزءاً منها؛ لكن ذلك لا يشكل لنا أو لهم مشكلة. ولا حرمنا ولا هم من روابط الدين واللغة والتاريخ.. والمصالح. لكن المشكلة في انفصال جنوب السودان أنه قائم على قطيعة (أخلاقية).. وليت هويدي يبقى معنا قليلاً في السودان وينظر عن كثب للمشهد.. لن يرى خلف طيات الخلافات السياسية إلا أطلال وبقايا الجريمة الأخلاقية.. التي تشكلت عبر التاريخ. لو قال لنا الجنوبيون إنهم ماضون في سبيلهم لأن ذلك يوفر لهم قوة اقتصادية أكبر.. أو رفاهية في الحياة أو مصالح أخرى لكان الأمر هيناًً.. لكن الواقع الآن أن الجنوب يذهب عن الشمال تحت طائل دفاتر مغلظة من الاتهامات ال(أخلاقية).. ممارسة التمييز العنصري بأبغض أشكاله.. اتهام مسنود يصعب إنكاره. ولدينا – يا أستاذ فهمي – معروضات اتهام لا يرقى إليها الشك.. اذهب بنفسك إلى \"شارع الحرية\" بوسط الخرطوم.. على بُعد عشر خطوات من بوابة مجلس الوزراء زُر مقر حزب (منبر السلام العادل).. سيقال لك أننا لا نرى وحدة مع الجنوبيين (حتى ولو دخلوا في دين الله أفواجاً..) وحتى ولو نطقوا العربية بأفضل من أبي الطيب المتنبيء. وستكتشف أن اسرائيل أو أمريكا لو فكرتا في تحقيق انفصال السودان.. لما خطر ببالهما وسيلة ولا أسوأ من هذه.. الانفصال صنعناه بأيدينا.. بيدنا لا بيد عمرو.. التيار