هناك فرق. هوَس جماعي ..! منى أبو زيد الانتباه رواية للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا أثارت ضجة وقت صدورها لأنها طرحت - ولأول مرة - مأزق الكاتب الروائي أمام أبطاله، وكيف ينبغي له أن يواجه واقعهم وواقعه .. هل يجامل على حساب الواقع فيكسب الآخرين، أم يكون صادقاً تماماً فيكسب نفسه ؟! .. تلك هي بالضبط مشكلة الإعلام العربي اليوم مع أخبار وتداعيات الموت حرقاً على مذبح الاحتجاج السياسي ..! ساهم الإعلام في إثارة عاطفة الجماهير وأجج فيهم توق الإنسان الأزلي نحو مواقف البطولة والمجد، فبات الشارع العربي – وأوله مجتمعنا المحلي – مصلوباً في وقفة إعزاز عظمى لأبطال الموت حرقاً تحت شرفات الحكام والمسئولين، و.. قاب قوسين أو أدنى من أبواب المعارضة الرسمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ..! ثم .. هاهي صحف الأمس تخبرنا إن بو عزيزي جديد كاد أن ينضم إلى ركب المنتحرين حرقاً على مذبح الاحتجاج والشجب والتنديد بسوء بالغلاء والبطالة وسوء أحوال المعيشة، كان موكب الوالي في طريقه المعتاد عندما صب شاب - في ولاية الجزيرة - البنزين على جسده، وشرع في إشعال النار، في محاولة لفت الانتباه إلى سوء أوضاع المواطنين، لكن الله سلم وباءت المحاولة بالفشل، وهو الآن قيد التحقيق في قضية شروع في الانتحار ..! ضحية جديدة من ضحايا الهوس الجماعي الذي صور بو عزيزي بطلاً أكثر شجاعة من فرسان الخوارج لأنه قضى نحبه ولم ينتظر .. بينما الرجل – في حقيقته - مواطن مسكين ومغلوب على أمره، وقع في مصيدة الانفعال (الذي يقول علماء النفس إنه حالة وجدانية ثائرة تشمل الجسم والنفس بالتغير والاضطراب حين تصطدم الدوافع بصورة غير متوقعة بحائل يعوقها أو يهزها بشكل ملائم أو غير ملائم!) .. له المودة والشفقة والدعاء بالرحمة، لكنه ليس مجاهداً دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة .. وهو ليس صلاح الدين الذي قاتل بسيفه حتى قال الأعداء كفى .. وليته استثمر مقدراته على مواجهة الموت في إضرام ثورة تغيير ..! هكذا يجب أن يكون عبور الإعلام من مأزق حكايات المحترقين .. أما تصنيف ذلك السلوك المتهور أنه بطولة وشجاعة فذاك هو الهوس الجماعي الذي يصيب المجتمعات عندما ينهك فكرها الغبن ويتلف أعصابها طول الصمت الظلم والقهر .. نحن في عصر العلم الذي تحرر فيه مفهوم البطولة عن عوالم الأسطورة والخرافة .. ما لكم كيف تحكمون ..؟! قبل سنوات قذف شاب عراقي اسمه منتظر الزيدي الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بحذائه فتحول إلى بطل، وتحول سلوكه إلى مثال وفلسفة وموقف وجودي شائع التقليد، ومثل هذا الهوس يسلب المجتمعات المسلمة أعز مقومات تمايزها واستقلاليتها .. تلك الهستيريا الجماعية هي طبيعة المجتمع الإسرائيلي ذو الهوية الجماعية القاتمة، وليس مجتمع خير أمة أخرجت للناس ..! حادثة الشروع في الاحتراق بولاية الجزيرة لا ينبغي أن تهمل، بل يجب أن تواجه بتدابير احترازية قبل شيوع انتقال العدوى، ولكن هيهات ..! مواقف الإعلام - عندنا - من الشأن الاجتماعي والفكري والإنساني، في أوقات الأزمات السياسية – وما أكثرها - مثل حال أهل مريض ينازع، تركوه بلا رعاية - لحضور حفلات التأبين - وعندما عادوا إليه، أدركوا أنهم أهل الميت ..! التيار