* [email protected] الثلاثاء: ذات يوم بعيد زار الموسيقار العظيم موتسارت مدينة فقيرة الثقافة، أستمع لشيء من موسيقاها الركيكة، وطالع بعض كتاباتها البائسة، فاكفهرت روحه، واعتكر مزاجه، وانمحق صفو مشاعره، ولم يملك سوى أن يضع معطفه على كتفيه ويخرج هائماً على وجهه في الشوارع الغريبة عله يقع على ما يبدد طعم الرداءة المركزة التي انعقدت في لهاته وانصلبت على لسانه! وبالطبع لم يجد من ذلك شيئاً ولو يسيراً، فأخذ يدندن بينه وبين نفسه حالباً ذاكرته بحثا عن بعض شعر يحمله بعيدا عن تلك الاجواء الكابية. وعندما أسعفته الذاكرة المجهدة بحفنة أبيات، مضى ينشدها عالياً، مؤانسا بها وحشته، فبدا كما لو كان مشاءً هبط لتوه من السماء! لكن أظفار الحنق والاشمئزاز المسننة ما لبثت أن نشبت في روحه الشفيفة فأعيتها وأثخنتها. ساعتها تملكه اليأس تماماً، وبدا له صفاء النفس ضرباً من المستحيل في تلك المدينة القاحلة فناً وفكراً، فلم يتوان في أن يهرول عائداً ليحزم حقائبه وهو يصيح حانقاً: \"لو خرجت من هذه المدينة بذوقي سليماً لحمدت الله\"! يستدعي ذلك إلى الذاكرة رسالة عثمان حسن احمد الساخرة إلى صديقه الأثير، وزميل دراسته، علي المك، رحمهما الله، يبثه شكواه المرة من بعض ما كان اشتكى منه موتسارت: \"يدهشني هذا السيل العارم من الكتابات، البعض لا يكف عن تسويد الصحف دون أن يقول شيئاً\"! ولم يجد عثمان عزاءً، من بعد، إلا في بضعة أقلام ذوات بلسم ينهل منه بعض جرعات مضادة لما أسماه، متندراً، ب (داء السَّعَر الكتابي)! ثمَّ اختتم رسالته متفكهاً حدَّ السخرية السوداء التي لطالما برع فيها كلاهما: \"أفكر جاداً في تكوين جمعية للرفق بالقراء\"! وفي مقام قريب الصلة على نحو ما، تحضرني، أيضاً، حكاية ذلك السلطان المعتوه الذي أرهق رعيته غباءً ثقيل العيار، ورعونة لا يكاد يحيط بها خيال، بأطنان أوامره النزقة، وأرتال نواهيه المرتجلة! وفي غمرة هذيانه السلطاني هذا أصدر، ذات يوم، قراراً عشوائياً بحظر جميع الصحف والمطبوعات، رغم كونها داجنة لا تمثل سوى ظل سلطته نفسها، معتقداً أنه بذلك إنما يكدر الرعية المغلوبة على أمرها، ويسبب لها ضيقاً ما بعده ضيق! لكن كم كانت دهشته عظيمة عندما علم في اليوم التالي أن شعبه خرج على بكرة أبيه، لأول مرة، في مواكب أفراح صاخبة مجلجلة اهتزت لأهازيجها أركان قصره وركائز عرشه! نذكر، من جهة أخرى، قصة أبي حيان التوحيدي، المفكر ذي النزعة الانسانية الشاملة المنفتحة، والذي كتب عنه أركون، بكثير من الامتنان، واصفاً إياه بأنه: \"الفيلسوف الذي انتفض باسم الإنسان لأجل الإنسان\"! أبو حيان هذا، المتلظي بالأسئلة القلقة المتشككة يُخضع بها البداهات المتجمدة والمرجعيات المتحجرة واليقينيات الجمعية العمياء لمبضع التشريح وأفق التحليل، عاش عصر فساد طال كل شئ، وطمست حلكته كل بادرة ضؤ، وقطع فيه سارقُ السر كفَّ سارق العلانية، وانطلق (أمراء) المساغب الروحية والفكرية يفتحون فوهات سخامهم ليسودوا واجهات الحياة! وحينما انتصرت على الجمر فلولُ الرماد، أحرق الرجل كتبه القيمة النادرة ضناً بها على الناس، ومضى يتكئ على بعضه دامعاً، ملتاع الخاطر، يهمهم: \"أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً على الصمت\"! ولعلها ذات الأعراض التي جعلت داود الطائي يطرح مؤلفاته في البحر، وأبا عمر بن العلا يطمر كتبه في باطن الأرض،ثم يقيم عليها مناحة لائقة، وأبا سليمان الذراني يضع كتبه في تنور عظيم ثم يسجرها بالنار قائلاً ما معناه إن الأمية ليست بالضرورة الجهل بالقراءة، بقدر ما هي الجهل بالقيمة! فإذا تأملنا الحال في مشهده الكامل، بواجهاته وخلفياته وزواياه كافة، ما ظهر منها وما بطن، لانطلقنا من فورنا نهمهم بالتساؤل الفاجع: أي أصناف يا ترى من الموسيقى والغناء في تلك المدينة الكابية جعلت موتسارت يهرب مستغيثاً من فجاجتها المبهظة؟! وهل عرف زمانه مأزق الابداع ينحشر حشراً بين قوسي لعاب (التجارة) السائل وثقافة (الاستهلاك) السائدة؟! وماذا تراه كان فاعلاً لو كان أدرك زمان (الفن) المستنسخ بعضه من بعض. أما عثمان الرءوف بالقراء، المشفق عليهم من تراجيديا (الاجتياح الكتابي) العنيف غير المنقطع، فقد فاته، رعى الله أيامه، أن يتعزى أيضا بالفارق الهائل بين (كم) الصحف على أيامنا هذه و(كمها) أوان خط رسالته تلك إلى علي. أم تراه آثر أن يتركنا، قصداً، أسارى الحيرة اللغوية، لا نكاد ندري ما إذا كان من الممكن لعبارة (السيل العارم) أن تتسع، وإن نفخت حتى فرقعت أو مُطت حتى تمزقت، لتسونامي الخلط، والتمويه، والمجانية، والخطابية الفجة، والتقريرية الجامدة، والعيانية المباشرة، والترهل اللغوي، والتكرار الممجوج، ومجاعة الأفكار، وتعتيم الوعي، وإعادة إنتاج المسلمات، والدلالات الاعتباطية الفارغة، والتسطيح والتدجين ،حتى لتكاد عبارة النِفرِّي تستدرك على بعضها، بل تنسخ نفسها، عياناً بياناً وعلى رءوس الأشهاد، لتخرج على الملأ، نائحة، تصرخ في القِبَل الأربع: \"كلما ضاقت الرؤية اتسعت العبارة\"؟!