[email protected] إهتزت يده اليمني و هو يشير إلي شعر رأسه, الذي إبيض بفعل السنين, و إغرورقت عيناه بالدموع, و هو يقول , لقد هرمنا في إنتظار هذه اللحظة التاريخية. نعم لقد كانت لحظة فارقة بين عهدين, كمن ينتظر إنبلاج الفجر. هذه لحظة فارقة في حياة الشعوب, ينبغي الوقوف عندها و التأمل فيها ملياً, لمعرفة , لماذا حدث هذا الذي حدث ؟ هل تم تغييب وعي هذه الشعوب, أم هل إستكانت هذه الشعوب , حتي حدث هذا الذي حدث, من فساد و إستبداد. إن ما حدث في هذا العالم العربي , في خلال السنين التي مضت, هو شئي مهول يعجز القلم عن تصويره, من فساد و إستبداد, حتي تجرأ بعض الحكام لتوريث الحكم لبنيهم. هذا الرجل الذي شاخ و إبيض شعر رأسه, هو نموذج للإنسان العربي , الذي يرفل في قيود الذل, و عبودية الفقر و المرض. لا يري جديدا يتحقق في مجتمعه و في حياته, بل تسير الأمور من سئي إلي أسوأ, بسبب الإستهبال و الغش و الخداع و الفساد و كبت الحريات, الأمر الذي أدي إلي سرقة جهود الآخرين, و تحويله إلي حساب قلة إمتهنت و إستمرأت مص عرق الكادحين, و هذا أدي إلي أن يتجرأ هؤلاء الحكام الفاسدين إلي تحويل بلادهم إلي إقطاعيات , أو ( جمهوريات ملكية), تعيش فيها قلة في نعيم , بينما يتجرع الآخرين كؤوس البؤس و الحرمان. يعيش المسئول الأول في الدولة في معزل عن شعبه, بسبب قلة فاسدة إلتفت حوله و سمت نفسها جماعة الرئيس Kitchen cabinet. و المصطلح ينسب إلي الأمريكان, إذ كان أحد الرؤساء السابقين, يجتمع في فترة الراحة, مع بعض مستشاريه في مطبخ البيت الأبيض و يناقش معهم الشئون العامة. لكن جماعة الرئيس في بلادنا العربية, يجلسون مع الرئيس في غرفة نومه, ليناقشوا معه المسائل المصيرية التي تتعلق بمصلحة البلد. أي أن المسئول وضع ثقته في هذه الطغمة الفاسدة التي كانت تخدعه و تزين له الباطل حقاً , كما كان يقول ذلك الصحفي الكبير, الذي كان يجلس مع عبدالناصر في غرفة نومه , ويقول له : حضرتك أصل إيه ... أصل إيه , حتي جاءته الطامة , أقصد هزيمة يونيو 1967م. إستمعت إلي أحد المسئولين التونسيين, و هو يعلق علي الفساد, الذي حدث في تونس في العهد الماضي. أفاد هذا الرجل, أن مسئولاً طلب عمولة قدرها 600 مليون دولار أمريكي ( ستمائة ) , و ذلك حتي يتسني له التوقيع علي عقد إنشاء مصفاة في تونس, تمولها دولة عربية, تبلغ تكلفة إنشاؤها حوالي ستة مليار دولار أمريكي. تحدث ذلك المسئول في ذهول , و هو يقول أن مبلغ العمولة, يكفي لصيانة كل الطرق داخل تونس!. لم توافق الشركة المتعاقدة علي طلب المسئول, و كان أن ألغي العقد, و خسرت البلد مشروعاً حيويا, كان سيسهم في تنمية البلد. هذا مثال للمسئولين الفاسدين في عالمنا العربي. ذلك الذي لا يستحي و لا يشفق علي الآخرين, و في نفس الوقت تراه يقنن لهذا الفساد, دون أن يطرف له جفن, و كأنه ملائكة أطهار أخيار. و بعضهم يقنن للفساد باللجوء إلي أساليب ملتوية, لحماية الفاسدين, مثل ( الجودية) و( أستروها ) و المحسنات البديعية مثل ( فقه السترة ). ماذا يعني فقه السترة؟ هل يعني التستر علي جرائم المال العام, و أن فلان إبن ناس و لكن ضعفت نفسه في لحظة و كبا ؟ أولم تقرأ ما جاء في الأثر عن رسولنا محمد (ص) : لو سرقت فاطمة بنت محمد , لقطع محمد يدها ؟ نعم لا ينبغي التشهير بمن أفسدوا, و لا يصح البحث عن كباش فداء Scapegoat لإيهام الشعب أن الحكومة قضت علي الفساد, و لكن ينبغي في نفس الوقت أن تتحقق العدالة . إن جريمة سرقة المال العام, لا تقل في بشاعتها عن جريمة القتل, لأن السارق , يعمل علي قتل شعب بحاله. كم أذهلني رقم ثروة العقيد القذافي , التي بلغت ( 121 مليار دولار أمريكي ) . علق المذيع قائلاً , أن ثروة الرجل تعادل ستة أضعاف ميزانية ليبيا لعام 2011م. و من الطريف, أن هذا الرئيس , لم يدرج ضمن الحكام الأكثر فساداً, علي مستوي العالم The most corrupted leaders worldwide , و ذلك في المواقع التي ترصد هذه المسألة, مثل موقع الموسوعة الحرة ( ويكيبيديا ). ربما يكون ذلك لأنه إمام المسلمين!. في الدول التي يسود فيها حكم القانون, و يخضع فيها كل فرد للمساءلة و المحاسبة, يكون كل شئي شفافاً, و بالتالي يصعب التلاعب في المال العام. نعم أن الفساد قديم قدم التاريخ, و يوجد في كل مكان و بمقادير متفاونة. لكن لا يعني هذا أن نسمح لهذا الفساد , أن يتغلغل في بلادنا بحيث يصبح ثقافة, و يؤدي إلي تعطيل المصلحة العامة, بسبب قلة فاسدة. في الولاياتالمتحدةالأمريكية, علي سبيل المثال, لا يسمح القانون للرئيس الأمريكي أن يقبل هدية تزيد قيمتها عن مائتي دولار, و إن زادت عن هذا المبلغ, توضع في الخزينة العامة و ذلك درءاً لأي شبهة فساد. و في هذه المجتمعات المتحضرة, يخضع كبار المسئولين لإجراءات إبراء الذمة , و ذلك لمراقبة المسئول و حتي لا تسول له نفسه أن يعبث بالمال العام. بلغت ثروة الرئيس الأمريكي الأسبق, ريتشارد نيكسون, أربعة مليون دولار, عند ترشحه للرئاسة, و كان أقل الرؤساء ثروة في تاريخ أمريكا. أما في بلادنا, فقد سمعنا من يقول أنه يشغل أكثر من وظيفة في جهاز الدولة. لا أدري كيف سيتمكن هذا الموظف من الجمع بين هذه الوظائف المتعددة و المتنوعة. ألا يعد هذا فساد ؟ في بداية عملي في الحكومة في منتصف الثمانينات الماضية , كنت أقلب في الملفات. وقعت عيني علي طلب قدمه رئيس القسم , يطلب فيه السماح له بترخيص سيارته الخاصة كتاكسي للعمل بها في المساء , بهدف زيادة الدخل و مقابلة أعباء المعيشة, بسبب أن راتبه يتقاصر عن الوفاء بكلفة هذه الأعباء. علمت أن وكيل الوزارة, قد تجاوز لائحة العمل, و سمح له بالعمل في التاكسي في المساء, و لكنه كان مستاءاً من هذا الموظف, الذي أتي بسابقة خطيرة. تقول فلسفة العمل و لوائحه , أنه ينبغي علي الموظف العام أن يتصف بالآتي : 1/ الإستقلال Independence 2/ الموضوعية Objectivity 3/ النزاهة Integrity و ذلك حتي لا يؤثر فقدان هذه المعايير في أدائه لعمله. لكن فلننظر إلي حال الخدمة العامة في بلادنا في السنين الأخيرة, لنري هل لا زال موظفي الخدمة العامة يتصفون بهذه المعايير أم لا ؟ إن ضعف التربية الوطنية و التنشئة الإجتماعية السليمة, يعد مدخلاً لنشوء الفساد, و يساعد علي نموه التراخي في تطبيق اللوائح المنظمة للعمل , و العبث بالصالح العام. نحن في حاجة إلي تنشئة إجتماعية سليمة و تربية وطنية تعلي من شأن القيم السمحة. كما أننا في حاجة إلي تطبيق القانون و الضرب بيد من حديد علي الفاسدين. بدون هذا سيكون الحديث عن محاربة الفساد مجرد كلام. الرياض / السعودية .