لا..ل (حيونة الشعوب)! رشا عوض [email protected] كم هو محزن ومسيء ذلك السؤال الاستنكاري الفاجع الذي يطرحه البعض حول دوافع شعب كالشعب الليبي للثورة على القذافي وهو شعب مترف مقارنة بشعوب المنطقة، توفر له الدولة مجانية العلاج والتعليم وتوفر له احتياجاته من المواد التموينية بأسعار زهيدة وغير ذلك من الامتيازات وأشكال الدعم، وتزيد حدة الاستنكار عندما تخرج مظاهرات في دولة خليجية حيث أعلى مستويات الثراء والترف في المنطقة، الفجيعة في مثل هذا السؤال تتجلى في ثلاثة وجوه، الوجه الأول هو اختزال تطلعات الشعوب وحصرها في قاع (هرم ماسلو) أي في الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب ومأوى، والحكم بالإعدام على الروح الإنسانية المنجذبة بطبيعتها ومنذ الأزل إلى الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، تلك الروح التي تنبعث في كل مجتمع على طريقته لترسم ملامح ذاته المعنوية التي بها لا بغيرها يستوفي شروط إنسانيته! تلك الروح التي ألهمت مفكري الإنسانية وفلاسفتها تلك الأفكار العظيمة التي أنتجت نظرية العقد الاجتماعي ومباديء حقوق الإنسان والديمقراطية بعد معاناة طويلة ومضنية مع مختلف صنوف القهر والاستبداد، وهي معاناة كابدتها الإنسانية جمعاء بمختلف أديانها وأعراقها وثقافاتها في كل أركان العالم القديم والجديد، نعم المطالب المادية عنصر مهم في تحريك الإنسان ولكنها لو أصبحت المحرك الوحيد فقد الإنسان إنسانيته! و يبقى التفاوت التاريخي بين الشعوب، فهناك من قادته تجربته مع القهر والاستبداد إلى تقديس الحرية ومن ثم تجسيدها وحراستها بالنظم الديمقراطية، وهناك شعوب وفي مقدمتها الشعوب العربية لم تدرك تلك الغاية النبيلة بعد، ولكن طلائع مستنيرة منها تسعى سعيا حثيثا لإدراكها وفي ذات الوقت يسعى بين ظهراني هذه الشعوب كثير ممن دجنتهم آلة القمع المزمن ونجحت عبر التجهيل الممنهج ضمن عوامل أخرى(تاريخية وثقافية) في تغييب قيم الحرية والعدالة والكرامة عن وعيهم، فانخرطوا بقصد أو بدونه في تطبيع عملية (حيونة الإنسان) أي تحويله إلى كائن زاهد في الحرية والكرامة، يأكل كما تأكل الأنعام ويسكت عن الجهر بالحق ومناهضة الظلم إيثارا للسلامة، ولا يتساءل عن حقه الإنساني الأصيل في أن يشارك في السيادة على وطنه عبر المشاركة في اختيار حكامه ومراقبتهم ومساءلتهم والتصدي لظلمهم وفسادهم وسوء إدارتهم، وامتلاك الحق في عزلهم وفق مكانزمات سياسية متفق عليها، الوجه الثاني للفجيعة فهو أن الذين يطالبون الشعب الليبي بالتعبد في محراب القذافي إلى يوم يبعثون لأن الشعب الليبي يعيش في رفاهية يعتقدون أن رفاهية الشعب الليبي المزعومة هي هبة الزعيم! وكأنما القذافي هو من خلق النفط في باطن الأرض الليبية أو كأنه ينفق على الشعب من ثروته الخاصة التي ورثها عن أبيه أو أمه وليس من ثروة قومية مملوكة للشعب أولا وأخيرا ومن حق هذا الشعب أن يحصل على خدمات ومستوى معيشة يتناسب مع حجم موارده دون من أو أذى، ودون أن يكون مطالبا بالتنازل عن حريته وكرامته وتحمل طغيان القذافي وأبنائه الذي بلغ حد الاستعباد، والوجه الأخير للفجيعة هو اعتقاد ان هناك تضاد بين الحرية والنظام الديمقراطي من جهة والرفاهية والاستقرار من جهة أخرى، وهو اعتقاد هزمته التجربة العملية في كل مكان، فحيثما ساد الاستبداد أهدرت الموارد في الفساد وفي تغذية آلة القمع وفي الصرف على السفه السياسي للزعيم الذي لا يسأل عما يفعل، وهذا النوع من الصرف أهدر على سبيل المثال مليارات الدولارات من أموال ليبيا في معارك دونكشوتية للزعيم ليس للشعب الليبي فيها ناقة ولا جمل وكان من الأجدر أن تدخر هذه المليارات للشعب وأجياله القادمة فهو لا يملك موردا سوى النفط وهو مورد ناضب.