بالمنطق الضفة الأخرى..!! صلاح الدين عووضة [email protected] * كل شيء كان ينضح جمالاً صباح اليوم ذاك من صباحات قرية تُمبس بالشمال النوبي.. * الشمس بقرصها الدائري الكبير تنهض بتثاقل من غفوتها وأشعتها الواهنة تنسرب من بين هامات النخيل الشامخة.. * وأقراص أخرى لا تقل جمالاً واستدارةً كان يجري إعدادها من عجين القمح - في اللحظات تلك نفسها - داخل كل بيت من بيوت القرية لوجبة إفطار الصغار الذين سيعبرون النهر عما قليل نحو مدارسهم القابعة بالضفة الأخرى.. * والطيور بأشكالها كافة طفقت تنشد نشيد الصباح المألوف وقد أحالت فضاءات البلدة الساكنة إلى أمواج من حفيف التصفيق بأجنحة لا تعرف الفتر إلا حين تفتر عزيمة الشمس.. * أما الأمواج التي للنيل فقد كانت تلطم برفق خد قرية تألفها منذ القدم ثم تنسحب بدلالٍ غير موحٍ بلطمات غادرة.. * ومن مكان ما يسري مع الأثير صوت وهبة ولولي شقيق المطرب النوبي المعتق صالح ولولي يدندن بأغنية (أسمر اللونا) التراثية الشهيرة.. * كل شيء إذاً كان يوحي بوقائع ليومٍ لها من جمال ذياك الصباح نصيب.. * لا الشمس ببهائها الصباحي الحاني كانت تعلم بما سيحل بالبلدة من فاجعة بعد حين.. * ولا الطير والنخيل والزروع وصانعات أقراص الخبز كذلك.. * ولكن النيل كان يدّخر لطمة غير ذات حنو للقرية مصوبةً نحو بعضٍ من فلذات أكبادها.. * وتحسباً للطمة مثل هذه كان الكبار قد أوصوا صغارهم صباح اليوم ذاك بما درجو على ترديده مع إشراق كل يوم.. * ثم كانوا يحرصون على أن تكون وصاياهم هذه بنوبيةٍ (فصيحة) يفهمها هؤلاء أكثر من فهمهم ل(رطانة) العربية.. * يوصونهم بأن يأخذوا حذرهم من النيل.. * هذا ما قد كانت وثقته كاميرا المخرج النوبي حاصد الجوائز الخارجية سيف الدين حسن.. * فقد سبق لسيف هذا أن نال جائزة عن فيلمه الوثائقي (صائد التماسيح).. * ثم عن فيلمه (رجل من كرمكول) توثيقاً لجانب من تاريخ أديبنا العالمي الطيب صالح.. * ثم عن فيلمه هذا الذي بين أيدينا بالعنوان أعلاه توثيقاً لأحداث يوم نوبي بقرية (منسية).. * وتمضي كاميرا إبن جزيرة لبب توثق لأحداث اليوم هذا.. * فصوت ولولي كان لا يزال يصدح بكلمات أغنية (أسمر اللونا) حين بلغت (الفلوكة) بالتلاميذ عرض النهر.. * وفي اللحظة التي تُوحي فيها الكاميرا بقرب (قطع) المشهد تُفاجأ بمشهد يجُبُّ ما قبله من مشاهد ألق ذاك الصباح.. * ويتبدل حال القرية من سعد إلى نكد.. * وتكف الطيور عن الشدو مفسحةً حيز فضاء القرية لأصوات البكاء والنحيب والعويل.. * ويُطاطئ النخيل هاماته؛ والنيم والدوم والزروع.. * والشمس تكتسي ثوب حداد قاتم وهي ترنو إلى القرية تُشيِّع أبناءها قبل أن تهوي نحو مضجعها.. * أما النهر فقد كانت أمواجه تتلاطم لتبدو كأنما (يلطم) بعضها بعضاً.. * وحين تقفز كاميرا المخرج إلى مشهد تغني فيه القرية مع ولولي أغنية (دسي ليمونة) التراثية نكتشف أن تُمبس قد قفزت فوق أحزانها لتصنع مركباً شراعياً عوضاً عن (الفلوكة).. * ويصنع عبد الجليل التمبساوي الفلك.. * وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا من وعود (رسمية) بتذكر القرية (المنسية)، ثم أمدوه بما يعينه على الفراغ من مهمته (الإنقاذية!!).. * وتبتهج القرية بعد مضي شهرين بنزول المركب إلى النهر.. * وتشرئب أعناق الناس والنخيل والطيور والشمس نحو مهبط الفلك.. * وتشرئب أعناق فضائيات خارجية نحو كل ما ينتجه سيف الدين حسن.. * وكذلك أعناق مانحي الجوائز في الخارج.. * إلا فضائيات بلادنا.. * فهي تعيش في (الضفة الأخرى!!).