د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    السجن لمتعاون مشترك في عدد من قروبات المليشيا المتمردة منها الإعلام الحربي ويأجوج ومأجوج    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحلة 800 على طائرة البوينغ 747
نشر في الراكوبة يوم 11 - 02 - 2012


ألو جانيت .. الرحلة 800 على طائرة البوينغ 747
بقلم / منصور بسيم الذويب
[email protected]
 قصة واقعية 
تحية لك يا (جانيت) رغم أني لم أعرفك قط ، إنما سمعت صوتك عبر جهاز الهاتف منذ عشرين سنة ونيف قبل أن أخط حروف هذه القصة بقلمي ، ولم أعرف عنك سوى أنك موظفة مختصة بالحجوزات في شركة عالية للخطوط الجوية ، لا أدري لم تخيلتكِ بيضاء شقراء يكسو وجهك نمش بني مائل إلى الحمرة . كنت وقتها ثابت الجنان رغم تيقني أن مرور الوقت ليس في صالحي ، وأن الموت يدنو مني أكثر كلما مضت عقارب الساعة في سيرها أكثر .
ربما ما تزال الرحلة (800) مدونة في أرشيف شركة الطيران لحد الآن ، وربما ما تزال (جانيت) موظفة في نفس الشركة ، وربما أضحت الآن مديرة لأحد مكاتب الخطوط الجوية ، او أنها تقاعدت بعد خدمة طويلة . أما بطل هذه القصة فإنه على العهد ، يعض على المباديء والمثل العليا التي آمن بالنواجذ ، يعاني ويكابد بسبب ذلك ما يكابد ، بل يتعذب ، لأنه في صدام دائم مع الباطل وأهله ، وهم يتربصون به دوائر السوء ، ولن تنقذه منهم إلاّ عناية من عند الله.
مع تحيات
منصور بسيم الذويب
(1)
صديق صديقي
إرتقى أحد المخفورين سلم إحدى الطائرات التي كانت تتهيأ للطيران يرافقه عنصرا أمن إحدى سفارات الدول النامية ، أجلساه في مقعده وترجلا من الطائرة ، كان يرتدي قميصا ممزقاً عند كتفه الأيسر ، ما يوحي بتعرضه لتحقيق عنيف من عنصري أمن السفارة اللذين اوصلاه الى الطائرة ، لم تكن التحقيقات هي التي سبّبت تمزق قميصه إنما القدم والبلى . حينما احتل السجين مقعده الوثير ، وثبت إحدى الفتيات من مقعدها المجاور وهي ترتعش،لتغادره الى مقعد آخر ، لأنها ظنته مجرماً من أصحاب السوابق .
حالة من الذهول استولت على (سامر) لم يكن بوسعه الرد ، أو حتى مجرد التفكير ، غدا مشوش الذهن ، سيطرت عليه هواجس مرعبة ، لم يكن ثابت الجنان كما عهد نفسه ، هاهو يقترب من موت لا هزل فيه ، تفصل بينهما مجرد ساعات ، تفصل بينهما فترة زمنية قد لا تتعدى مشاهدة فيلم سينمائي ليس أكثر .
إذن الأمر جاد بكل ما تعنيه هذه الكلمة .
يا ليت العمر يطول قليلاً ، انه بأمس الحاجة الى فسحة من الوقت للتفكير . التهمة ثابتة ، بل هي أكثر من تهمة . لو انصفوه وعرضوه على محكمة ، فلن يكون بوسعه كالعادة توكيل محام ، او السماح له بالإستئناف . ثلاث تهم كل منها تحكم بالإعدام . إن برِّئت ساحته من تهمة فسيقع في أخرى .
سرح بتفكيره الى ما قبل اقتياده إلى المطار بقليل . قسمات رجل الأمن الذي يرافقه مألوفة . نعم ربما كان هذا سبب تبسمه ونظراته الودية في السفارة . إنه .. إنه ابن حارته الخياط . نعم الخياط . لكنه الآن رجل مخابرات ، فكيف ذلك ؟ هذا ممكن ، فعشرة اعوام تفعل الكثير ، عشرة اعوام يتغير فيها الإنسان من النقيض الى النقيض . قال في نفسه : إذن هو الخياط الذي كان صديقاً لأصدقائي ، يرتاد معنا المقاهي ، في حيِّنا الذي نشأنا فيه ، كم قضينا من ساعات على نواصي الطرقات ، وعند المنحنيات . أمر غريب ، طوال سنين مضت لم احاول معرفة اسمه ، لم اعرف سوى انه يعمل خياطاً ، وانه كان ودوداً لطيفاً مع الجميع متهافتاً لمصاحبتنا أكثر من تهافتنا لمصاحبته . قد يكون هذا سر اهتمامه بي وتعاطفه معي في محنتي ، رغم إنكاري له وجهلي بشخصيته ، أنفق من جيبه مبلغاً محترماً لطعام غدائي ، وخاطر وشريكه بوظيفتيهما الحساسة ليولمني وليمة في مطعم من مطاعم الدرجة الأولى ، رغم أني مخفور أخضع للوائح وضوابط لايمكنهم تجاوزها . دس في جيبي علبة دخان من نوع مارلبورو . أمر عجيب فعلاً . ما هذا الكرم ، ما هذه الضيافة ؟ إنني اعلم بأن السفارات ليست بهذا الكرم مع سجنائها ، تذكرت الآن وعرفت السبب ، إنه صديق صديقي ، فمرحى للشرف وللشرفاء .
(2)
طائرة فارهة
أقلعت البوينغ (747) وهي تشق جو الأرض إلى ظلام مجهول في السماء . شاهد صاحبنا المركبات والطرقات وهي تتضاءل شيئاً فشيئاً ، حتى اختفت في ظلمة الليل ، مثل حريته المفقودة بعد أن أصبح مسلوب الإرادة بين الأرض والسماء في طائرة لايعلم مصيرها إلاّ الله ، دون محطات أو توقفات .
عُدِمَت عند (سامر) فرص الهرب جميعها ، لاحاجة للأغلال ما دامت أبواب الطائرة موصدة ، وحتى لو كانت مشرعة فما عساه أن يفعل وهو يسبح في الفضاء ؟ تَلَفَّتّ في كل الإتجاهات يبحث عن حيلة ، تفَرَسَ في الوجوه ، قرأ الأنانية في قسماتها والبخل في نظراتها ، لاحت منه نظرة إلى بعيد ، حانت التفاتة رحيمة من أحدهم . أومأ إليه يطلب منه قصاصة ورق . لم يتأخر هذا ولم يضن بها عليه . تلقفتها أيدي المسافرين حتى استقرت بين يدي (سامر) ، تشيِّعُها نظرات استخفاف واستهانة . لم يكترث لهذه النظرات ، مال برأسه إلى طاولته . كتب إلى أهله كلمات مختصرة يعلمهم بما آل إليه مصيره . دفع بالقصاصة إلى أقرب مسافر ليوصلها إلى أهله . رفض هذا استلام القصاصة وإمارات جبن ممزوجة بالبخل تجلت على وجه كالح ليس للمروءة فيه نصيب . عاد فأرسلها إلى الذي أعطاه القصاصة أول مرة . تناولها منه وعلى أساريره نظرة راضية شجاعة تدل على تقديره وفهمه للوضع .
مرت دقائق لايأتي أحد فيها بحركة أو كلمة وكأنهم نيام أو مخدرون . قطع المسافر الجالس بجوار (سامر) ذلك الصمت حينما فتح فجأة سدّادة شباك الطائرة المسدلة . انتفض الجالس بجوارهما حينما شاهد السدّادة مفتوحة وكأن حية لدغته . هزهز كتف صاحبنا بشدة وبسرعة يحذره خطورة ذلك . رد عليه (سامر) بالإنكليزية : لست أنا .. لست أنا الذي فعلها . انفرجت أسارير الرجل المذعور وتبسم قليلاً عندما سمع الإنكليزية ، فأجابه بلغة عربية مكسَّرة : أنا لاأحسن الإنكليزية ، أنا أتحدث الروسية وأعمل طياراً ، وهذه السماء منطقة عمليات حربية وليس من الأمان لنا أن نفتح سدّادات الشبابيك ، لأن الضوء سيتسرب من داخل الطائرة فترصد من طائرات العدو المقاتلة فتقوم بإسقاطنا . هكذا بم .. بم ، قالها بعفوية وحماس . أجاب (سامر) : العدو .. العدو . من هو العدو ياترى ؟ أهو الذي يريد إسقاط طائرتنا ، أم هو الذي يريد أن يسلبني حريتي وكرامتي ليسلمني إلى جلادي فور وصول الطائرة إلى وجهتها ؟
(3)
ظن حسن برب كريم
أخذ يحدث نفسه بعد أن كاد اليأس والقنوط يتسرب إليه : آه يا لغفلتي . لم أترك فكرة أستعين بها أو وسيلة تعينني على النجاة دون أن أفكر بها . ولكن لماذا أغفلت الطريقة الوحيدة المجدية للنجاة ؟ ما أيسرها ، انها لا تكلف شيئاً ، مجرد كلمات صادقة وظن حسن بالله . دعاء مُتَضَرِّع خفي في هدأة الليل . آية من القرآن الكريم لاريب فيها ولالَبْس . كل جارحة منه نطقت بالآية الكريمة : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) . فإذا بالصفاء يعود إلى نفسه وبالسكينة تطمئن قلبه الملتاع ، وبرودة منعشة تسري إلى صدره الضائق وجسمه المنهك ، حتى بات وكأنه طائر في الهواء أو ريشة في مهب الريح . استحال إلى حلم جميل بعد أن عاش في كابوس مخيف . هكذا فعلت سعادة الإيمان به . هكذا تجرد من كل شئ ماعدا الإيمان . صار روحاً بلا جسد ، إلى نشوة ما بعدها نشوة . أيرقى الإنسان بالإيمان إلى هذا الحد بعد أن كاد يقنط ؟
(4)
هبوط بعد منتصف الليل
أصدر الطيار الأوامر بشد الأحزمة لاقتراب موعد هبوط الطائرة . شردت نظرات (سامر) وأصبحت مشتتة ، وكأنها نظرات محتضر في الرمق الأخير . لم يبق فيها ما يشير إلى أن قلباً ما يزال ينبض بين جوانحه . الدقائق القادمة ستكون فاصلة مخيفة . تسارعت ضربات قلبه ، وكأن صوتها ضربات ناقوس كنيسة . أحس بأن الطائرة تميل لتهبط . صوت طبطبة ورجرجة يعلن عن ارتطام شئ ما بالأرض ، وكأنه اللعب بالكرة حينما كان صبياً .
الوقت بعيد منتصف الليل . استقرت عجلات الطائرة على مدرج المطار في ظلام الليل . لم يكن قد ألِفَ صوت هبوط طائرة ، لأنه لم يستقل طائرة من قبل . تصفيق من المسافرين ابتهاجاً بسلامة الوصول . تزاحم المسافرون قرب باب الطائرة . فتح الباب . علامات قلق لاحت على وجوه المسافرين . اقتحم الطائرة رجال مدربون ، وكأنهم يرومون القبض على مجرم . نظرات حادة لا أثر للرحمة فيها ، كأنها عيون صقر يتهيأ للإنقضاض على فريسته . تمتم (سامر) لن أنجو إلاّ بمعجزة . اللهم إني مستجير بك من هؤلاء . اللهم إن استجرت بعبد ضعيف من عبادك فلن يسلمني ، فكيف بك يا إلهي . ظني أنك لا تسلمني ولن تمكن أحداً مني . فور أن انتهى من دعائه ، تراجعت قوة أمن المطار وعادت إلى مقرها وكأن معجزة قد حصلت بالفعل . انه الدعاء بصدق وتيقن بالاجابة . رغم خطورة الموقف فقد لاحت على محياه ابتسامة فيها حمرة الدم لأول مرة . صار بمقدوره أن يفكر بهدوء بعد أن كسب بفضل الله جولة أولى . لابد أن هناك سبب لمغادرة القوة الأمنية ، بعد أن بدا أنها ستقوم بإجراء عنيف . ربما لأن معظم المسافرين رعايا دول غربية كبرى ، ومنهم أعضاء في هيئات دبلوماسية ، وهؤلاء يحسب لهم ألف حساب ، وليس من الحكمة ترويعهم كما يحصل مع صاحبنا المخفور وأمثاله .
تحدّث (سامر) مع نفسه همساً : نحن أصحاب السيادة ، نحن أهل البلد . قسوة مفرطة ودماء مسفوحة . كيف طافت ذكراك عليّ يا أستاذي الكريم وأنا في هذه المحنة . كنت تعلمنا أن الشعب صاحب السيادة وأن الحكومة هي الخادم . فهل ينبغي للخادم أن يجلد سيده وكيف ؟ لابد أن هناك قوة أخرى تحرف هذا الخادم عن واجبه . من المفترض ان لدى هذا الخادم من الرحمة والتلاحم ما يمنعه من استباحة دم مخدومه ، فمن الذي حوله إلى طاغية ؟ أي أداة بوسعها أن تستبيح دماء محرمة ؟ المأجورون من الجهلة بوسعهم ذلك ، والطبقة الوسطى المثقفة التي تملك الإرادة الحرة والتي لايمكن أن تحرفها إغراءات المال والمناصب ، أوقفت عند حدها . صار الخوف هاجسها الأول . باتت أسيرة بيد من يمسك بالسوط ومفتاح الزنزانة .
(5)
فرار في ظلمة المطار
ترجل العشرات وهم يرطنون بلغات شتّى . وجود مريب في هذه الفترة أثناء الحرب . ماذا يفعل كل هؤلاء في بلدي ؟ حسرة وزفرة أطلقها سجيننا (سامر) . الملايين ينتظرون الدور لتهرسهم آلة الحرب دفاعاً عن الوطن ، وهؤلاء يحتلوننا دون طلقة بندقية أو قذيفة مدفع . ما جدوى الدفاع إذن على الحدود ؟ ما يفعل كل هؤلاء . يستجمون أو يصطافون ، أو هم للسياحة يتجولون ؟ إثناء نزوله من الطائرة اندس بين الأجانب ، وكأنه يلوذ ويحتمي بهم ، يحاول أن يستر ما تمزق من قميصه . تريث قليلاً وتطلع من خارج قاعة الجوازات عبر الزجاج . أدرك أنه لو تقدم بجوازه ، فستوضع الأغلال في يديه فوراً ، فما أبطأهم في المساعدة والإنصاف وما أسرعهم في الظلم والإيذاء .
كسهم خاطف تحكمه الغريزة وحدها . استدار بيأس إلى خارج قاعة المسافرين في العراء . ابتعد في الظلام . ارتمى وسط كوم من مخلفات المواد الإنشائية قرب مدرج المطار . أكياس سمنت فارغة وقطع من اللدائن وأشياء أخرى . احتضن الكوم واختفى بين طياته . تسارعت أنفاسه حتى ما عاد يسيطر عليها . حدَّث نفسه : لن يطول الأمر كثيراً ، ما هي إلاّ دقائق وسيكتشف أمري ويلقى القبض عليَّ . ألقى النوم عليه أمنة حتى ما عاد يشعر بشيء . استولى عليه فملك كيانه . عُدِمَ عنده الإحساس بكل شيء . تساوى في ذلك الأمن والخوف .
(6)
(صباح جميل)
أطل الصباح بنوره الجميل بعدما انصرمت الدقائق والساعات بسلام . صوت خافت يصدر عن مذياع بعيد . القرآن الكريم بصوت (عبد الباسط عبد الصمد) المحبب إلى (سامر) أعاد الطمأنينة المفقودة إليه . همس : هذا صوت مذياع أحد الذين يتوقون لاعتقالي . صوت القرآن من مذياع جلادي أمدني بالقوة والثقة بالنفس . إنها مفارقة غريبة . تحسس جسمه . اطمأن أنه مازال سليماً معافى .
أوشكت الشمس على الشروق . خشي أن تفوته فريضة صلاة الفجر . ضرب منطقة الفخذين من ملابسه المغبرة بكفيه . مسح ظاهر كفه الأيمن بباطن كفه الأيسر وظاهر كفه الأيسر بباطن كفه الأيمن بعد مسح وجهه ليؤدي صلاة الفجر تيمماً . لم يتحرك من موضعه . تخيل حركات الصلاة ونطق بالكلمات والآيات همساً . اختلس النظرات من بين طيّات كوم المواد الإنشائية . أشرقت الشمس بنورها الساطع . أصبح المطار واضحاً بكل تفاصيله . كان السكون يخيم عليه . لا طيران نهاري لظروف الحرب . لا حراسات إلاّ نادراً . الدولة منيعة تمسك بزمام الأمر بالكامل ، تقبض بيد من حديد على كل مرافق البلد فلا حاجة بها لحراسات كثيرة .
فجأة . سمعت أصوات آليات وحافلات وهي تتجه إلى مدرج المطار . ترجل العمال منها . باشروا أعمال الصيانة على المدرج القريب . لاحت ابتسامة على وجه (سامر) لأن الفرصة قد تؤاتيه بوجود هؤلاء . راح ينسحب من مكمنه بحذر لئلاّ يجذب انتباه أحد . انتصب واقفاً على قدميه . نفض الغبار عن ملابسه . أصلح من هندامه قليلاً . توجه نحو المدرج القريب . اختلط بالعاملين بهدوء . لم يتحدث ولم ينبس بكلمة . لم يسأله أحد من أنت وماذا تريد . لعل عناصر الأمن شاهدوه فظنوه أحد العاملين في صيانة المطار . ولعل العاملين ظنوه من عناصر الأمن من الذين يندسون بين العمال للمراقبة . بقي بينهم لبعض الوقت ، لم يجرؤ أحد أن يوجه إليه أي سؤال .
(7)
الحرية المنشودة
حانت نظرة من (سامر) إلى خارج المطار . حدّث نفسه : يا إلهي ، مجرد سياج سلكي يفصل بيني وبين الإنطلاق إلى حيث الحرية . دقق النظر ، وإذا بفتحة مناسبة بإمكانه أن ينفذ من خلالها إلى الخارج . نسي كل شيء إلاّ عزمه أن يمضي في درب الحياة التي يريد . تقدم بخطى ثابتة صوب الفتحة . عبر من خلالها وهو غير مصدق . صاح بصوت خفيض : صرت حراً .. صرت حراً . توقعت أن يجذبني أحدهم إلى داخل المطار مرة أخرى . ماذا ، هل يلعبون معي لعبة القط والفأر ؟ هذه معجزة إن تحققت إلى النهاية . هل تركوني أهرب ليراقبونني ثم يقبضون عليَّ مرة أخرى في الوقت المناسب ؟ هكذا كان سجيننا يحدِّث نفسه . خطوات معدودة وإذا به يقف بانتظار سيارة للأجرة على الطريق العامة في مدينته الحبيبة . أومأ إلى سائق السيارة . طلب منه إيصاله إلى حي المنصور . بلغ وجهته . ترجل عن المركبة . كاد يصرخ ويقفز من الفرح لأنه عاد حراً طليقاً . لكنه عَدِلَ عن ذلك حينما تنبه إلى وجود المارّة المنطلقين إلى وظائفهم . هدأت نفسه وأخذ يستعرض ذاكرته كشريط سينمائي . عادت به الذاكرة إلى الماضي القريب . حينما أفلح في اجتياز الحدود عبر تلك الصحراء القاحلة . تذكر كيف أخذ يقفز مبتهجاً بالنصر وبالحرية وهو في الناحية الأخرى من الحدود . تذكر طعم نشوة التخلص من الإستبداد والقيد . تذكّر كيف عاد بالطائرة مكرهاً ، وكيف اتصل رجل أمن السفارة التي قبضت عليه هاتفياً ب (جانيت) الموظفة بمكتب شركة الخطوط الجوية لتحجز له مقعداً في الطائرة المغادرة إلى بلده ، وكيف أنصت إلى صوتها المسموع من خلال سمّاعة الهاتف الأرضي (ألو جانيت .. أجابت : الرحلة (800) على طائرة البوينغ (747) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.