الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    طلب للحزب الشيوعي على طاولة رئيس اللجنة الأمنية بأمدرمان    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    البرهان : " لايمكن أن نرهن سيادتنا لأي دولة مهما كانت علاقتنا معها "    يوفنتوس يجبر دورتموند على التعادل    نادي دبيرة جنوب يعزز صفوفه إستعداداً لدوري حلفا    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    "مرصد الجزيرة لحقوق الإنسان يكشف عن انتهاكات خطيرة طالت أكثر من 3 آلاف شخص"    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    خطوط تركيا الجويّة تدشّن أولى رحلاتها إلى السودان    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحلة 800 على طائرة البوينغ 747
نشر في الراكوبة يوم 11 - 02 - 2012


ألو جانيت .. الرحلة 800 على طائرة البوينغ 747
بقلم / منصور بسيم الذويب
[email protected]
 قصة واقعية 
تحية لك يا (جانيت) رغم أني لم أعرفك قط ، إنما سمعت صوتك عبر جهاز الهاتف منذ عشرين سنة ونيف قبل أن أخط حروف هذه القصة بقلمي ، ولم أعرف عنك سوى أنك موظفة مختصة بالحجوزات في شركة عالية للخطوط الجوية ، لا أدري لم تخيلتكِ بيضاء شقراء يكسو وجهك نمش بني مائل إلى الحمرة . كنت وقتها ثابت الجنان رغم تيقني أن مرور الوقت ليس في صالحي ، وأن الموت يدنو مني أكثر كلما مضت عقارب الساعة في سيرها أكثر .
ربما ما تزال الرحلة (800) مدونة في أرشيف شركة الطيران لحد الآن ، وربما ما تزال (جانيت) موظفة في نفس الشركة ، وربما أضحت الآن مديرة لأحد مكاتب الخطوط الجوية ، او أنها تقاعدت بعد خدمة طويلة . أما بطل هذه القصة فإنه على العهد ، يعض على المباديء والمثل العليا التي آمن بالنواجذ ، يعاني ويكابد بسبب ذلك ما يكابد ، بل يتعذب ، لأنه في صدام دائم مع الباطل وأهله ، وهم يتربصون به دوائر السوء ، ولن تنقذه منهم إلاّ عناية من عند الله.
مع تحيات
منصور بسيم الذويب
(1)
صديق صديقي
إرتقى أحد المخفورين سلم إحدى الطائرات التي كانت تتهيأ للطيران يرافقه عنصرا أمن إحدى سفارات الدول النامية ، أجلساه في مقعده وترجلا من الطائرة ، كان يرتدي قميصا ممزقاً عند كتفه الأيسر ، ما يوحي بتعرضه لتحقيق عنيف من عنصري أمن السفارة اللذين اوصلاه الى الطائرة ، لم تكن التحقيقات هي التي سبّبت تمزق قميصه إنما القدم والبلى . حينما احتل السجين مقعده الوثير ، وثبت إحدى الفتيات من مقعدها المجاور وهي ترتعش،لتغادره الى مقعد آخر ، لأنها ظنته مجرماً من أصحاب السوابق .
حالة من الذهول استولت على (سامر) لم يكن بوسعه الرد ، أو حتى مجرد التفكير ، غدا مشوش الذهن ، سيطرت عليه هواجس مرعبة ، لم يكن ثابت الجنان كما عهد نفسه ، هاهو يقترب من موت لا هزل فيه ، تفصل بينهما مجرد ساعات ، تفصل بينهما فترة زمنية قد لا تتعدى مشاهدة فيلم سينمائي ليس أكثر .
إذن الأمر جاد بكل ما تعنيه هذه الكلمة .
يا ليت العمر يطول قليلاً ، انه بأمس الحاجة الى فسحة من الوقت للتفكير . التهمة ثابتة ، بل هي أكثر من تهمة . لو انصفوه وعرضوه على محكمة ، فلن يكون بوسعه كالعادة توكيل محام ، او السماح له بالإستئناف . ثلاث تهم كل منها تحكم بالإعدام . إن برِّئت ساحته من تهمة فسيقع في أخرى .
سرح بتفكيره الى ما قبل اقتياده إلى المطار بقليل . قسمات رجل الأمن الذي يرافقه مألوفة . نعم ربما كان هذا سبب تبسمه ونظراته الودية في السفارة . إنه .. إنه ابن حارته الخياط . نعم الخياط . لكنه الآن رجل مخابرات ، فكيف ذلك ؟ هذا ممكن ، فعشرة اعوام تفعل الكثير ، عشرة اعوام يتغير فيها الإنسان من النقيض الى النقيض . قال في نفسه : إذن هو الخياط الذي كان صديقاً لأصدقائي ، يرتاد معنا المقاهي ، في حيِّنا الذي نشأنا فيه ، كم قضينا من ساعات على نواصي الطرقات ، وعند المنحنيات . أمر غريب ، طوال سنين مضت لم احاول معرفة اسمه ، لم اعرف سوى انه يعمل خياطاً ، وانه كان ودوداً لطيفاً مع الجميع متهافتاً لمصاحبتنا أكثر من تهافتنا لمصاحبته . قد يكون هذا سر اهتمامه بي وتعاطفه معي في محنتي ، رغم إنكاري له وجهلي بشخصيته ، أنفق من جيبه مبلغاً محترماً لطعام غدائي ، وخاطر وشريكه بوظيفتيهما الحساسة ليولمني وليمة في مطعم من مطاعم الدرجة الأولى ، رغم أني مخفور أخضع للوائح وضوابط لايمكنهم تجاوزها . دس في جيبي علبة دخان من نوع مارلبورو . أمر عجيب فعلاً . ما هذا الكرم ، ما هذه الضيافة ؟ إنني اعلم بأن السفارات ليست بهذا الكرم مع سجنائها ، تذكرت الآن وعرفت السبب ، إنه صديق صديقي ، فمرحى للشرف وللشرفاء .
(2)
طائرة فارهة
أقلعت البوينغ (747) وهي تشق جو الأرض إلى ظلام مجهول في السماء . شاهد صاحبنا المركبات والطرقات وهي تتضاءل شيئاً فشيئاً ، حتى اختفت في ظلمة الليل ، مثل حريته المفقودة بعد أن أصبح مسلوب الإرادة بين الأرض والسماء في طائرة لايعلم مصيرها إلاّ الله ، دون محطات أو توقفات .
عُدِمَت عند (سامر) فرص الهرب جميعها ، لاحاجة للأغلال ما دامت أبواب الطائرة موصدة ، وحتى لو كانت مشرعة فما عساه أن يفعل وهو يسبح في الفضاء ؟ تَلَفَّتّ في كل الإتجاهات يبحث عن حيلة ، تفَرَسَ في الوجوه ، قرأ الأنانية في قسماتها والبخل في نظراتها ، لاحت منه نظرة إلى بعيد ، حانت التفاتة رحيمة من أحدهم . أومأ إليه يطلب منه قصاصة ورق . لم يتأخر هذا ولم يضن بها عليه . تلقفتها أيدي المسافرين حتى استقرت بين يدي (سامر) ، تشيِّعُها نظرات استخفاف واستهانة . لم يكترث لهذه النظرات ، مال برأسه إلى طاولته . كتب إلى أهله كلمات مختصرة يعلمهم بما آل إليه مصيره . دفع بالقصاصة إلى أقرب مسافر ليوصلها إلى أهله . رفض هذا استلام القصاصة وإمارات جبن ممزوجة بالبخل تجلت على وجه كالح ليس للمروءة فيه نصيب . عاد فأرسلها إلى الذي أعطاه القصاصة أول مرة . تناولها منه وعلى أساريره نظرة راضية شجاعة تدل على تقديره وفهمه للوضع .
مرت دقائق لايأتي أحد فيها بحركة أو كلمة وكأنهم نيام أو مخدرون . قطع المسافر الجالس بجوار (سامر) ذلك الصمت حينما فتح فجأة سدّادة شباك الطائرة المسدلة . انتفض الجالس بجوارهما حينما شاهد السدّادة مفتوحة وكأن حية لدغته . هزهز كتف صاحبنا بشدة وبسرعة يحذره خطورة ذلك . رد عليه (سامر) بالإنكليزية : لست أنا .. لست أنا الذي فعلها . انفرجت أسارير الرجل المذعور وتبسم قليلاً عندما سمع الإنكليزية ، فأجابه بلغة عربية مكسَّرة : أنا لاأحسن الإنكليزية ، أنا أتحدث الروسية وأعمل طياراً ، وهذه السماء منطقة عمليات حربية وليس من الأمان لنا أن نفتح سدّادات الشبابيك ، لأن الضوء سيتسرب من داخل الطائرة فترصد من طائرات العدو المقاتلة فتقوم بإسقاطنا . هكذا بم .. بم ، قالها بعفوية وحماس . أجاب (سامر) : العدو .. العدو . من هو العدو ياترى ؟ أهو الذي يريد إسقاط طائرتنا ، أم هو الذي يريد أن يسلبني حريتي وكرامتي ليسلمني إلى جلادي فور وصول الطائرة إلى وجهتها ؟
(3)
ظن حسن برب كريم
أخذ يحدث نفسه بعد أن كاد اليأس والقنوط يتسرب إليه : آه يا لغفلتي . لم أترك فكرة أستعين بها أو وسيلة تعينني على النجاة دون أن أفكر بها . ولكن لماذا أغفلت الطريقة الوحيدة المجدية للنجاة ؟ ما أيسرها ، انها لا تكلف شيئاً ، مجرد كلمات صادقة وظن حسن بالله . دعاء مُتَضَرِّع خفي في هدأة الليل . آية من القرآن الكريم لاريب فيها ولالَبْس . كل جارحة منه نطقت بالآية الكريمة : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) . فإذا بالصفاء يعود إلى نفسه وبالسكينة تطمئن قلبه الملتاع ، وبرودة منعشة تسري إلى صدره الضائق وجسمه المنهك ، حتى بات وكأنه طائر في الهواء أو ريشة في مهب الريح . استحال إلى حلم جميل بعد أن عاش في كابوس مخيف . هكذا فعلت سعادة الإيمان به . هكذا تجرد من كل شئ ماعدا الإيمان . صار روحاً بلا جسد ، إلى نشوة ما بعدها نشوة . أيرقى الإنسان بالإيمان إلى هذا الحد بعد أن كاد يقنط ؟
(4)
هبوط بعد منتصف الليل
أصدر الطيار الأوامر بشد الأحزمة لاقتراب موعد هبوط الطائرة . شردت نظرات (سامر) وأصبحت مشتتة ، وكأنها نظرات محتضر في الرمق الأخير . لم يبق فيها ما يشير إلى أن قلباً ما يزال ينبض بين جوانحه . الدقائق القادمة ستكون فاصلة مخيفة . تسارعت ضربات قلبه ، وكأن صوتها ضربات ناقوس كنيسة . أحس بأن الطائرة تميل لتهبط . صوت طبطبة ورجرجة يعلن عن ارتطام شئ ما بالأرض ، وكأنه اللعب بالكرة حينما كان صبياً .
الوقت بعيد منتصف الليل . استقرت عجلات الطائرة على مدرج المطار في ظلام الليل . لم يكن قد ألِفَ صوت هبوط طائرة ، لأنه لم يستقل طائرة من قبل . تصفيق من المسافرين ابتهاجاً بسلامة الوصول . تزاحم المسافرون قرب باب الطائرة . فتح الباب . علامات قلق لاحت على وجوه المسافرين . اقتحم الطائرة رجال مدربون ، وكأنهم يرومون القبض على مجرم . نظرات حادة لا أثر للرحمة فيها ، كأنها عيون صقر يتهيأ للإنقضاض على فريسته . تمتم (سامر) لن أنجو إلاّ بمعجزة . اللهم إني مستجير بك من هؤلاء . اللهم إن استجرت بعبد ضعيف من عبادك فلن يسلمني ، فكيف بك يا إلهي . ظني أنك لا تسلمني ولن تمكن أحداً مني . فور أن انتهى من دعائه ، تراجعت قوة أمن المطار وعادت إلى مقرها وكأن معجزة قد حصلت بالفعل . انه الدعاء بصدق وتيقن بالاجابة . رغم خطورة الموقف فقد لاحت على محياه ابتسامة فيها حمرة الدم لأول مرة . صار بمقدوره أن يفكر بهدوء بعد أن كسب بفضل الله جولة أولى . لابد أن هناك سبب لمغادرة القوة الأمنية ، بعد أن بدا أنها ستقوم بإجراء عنيف . ربما لأن معظم المسافرين رعايا دول غربية كبرى ، ومنهم أعضاء في هيئات دبلوماسية ، وهؤلاء يحسب لهم ألف حساب ، وليس من الحكمة ترويعهم كما يحصل مع صاحبنا المخفور وأمثاله .
تحدّث (سامر) مع نفسه همساً : نحن أصحاب السيادة ، نحن أهل البلد . قسوة مفرطة ودماء مسفوحة . كيف طافت ذكراك عليّ يا أستاذي الكريم وأنا في هذه المحنة . كنت تعلمنا أن الشعب صاحب السيادة وأن الحكومة هي الخادم . فهل ينبغي للخادم أن يجلد سيده وكيف ؟ لابد أن هناك قوة أخرى تحرف هذا الخادم عن واجبه . من المفترض ان لدى هذا الخادم من الرحمة والتلاحم ما يمنعه من استباحة دم مخدومه ، فمن الذي حوله إلى طاغية ؟ أي أداة بوسعها أن تستبيح دماء محرمة ؟ المأجورون من الجهلة بوسعهم ذلك ، والطبقة الوسطى المثقفة التي تملك الإرادة الحرة والتي لايمكن أن تحرفها إغراءات المال والمناصب ، أوقفت عند حدها . صار الخوف هاجسها الأول . باتت أسيرة بيد من يمسك بالسوط ومفتاح الزنزانة .
(5)
فرار في ظلمة المطار
ترجل العشرات وهم يرطنون بلغات شتّى . وجود مريب في هذه الفترة أثناء الحرب . ماذا يفعل كل هؤلاء في بلدي ؟ حسرة وزفرة أطلقها سجيننا (سامر) . الملايين ينتظرون الدور لتهرسهم آلة الحرب دفاعاً عن الوطن ، وهؤلاء يحتلوننا دون طلقة بندقية أو قذيفة مدفع . ما جدوى الدفاع إذن على الحدود ؟ ما يفعل كل هؤلاء . يستجمون أو يصطافون ، أو هم للسياحة يتجولون ؟ إثناء نزوله من الطائرة اندس بين الأجانب ، وكأنه يلوذ ويحتمي بهم ، يحاول أن يستر ما تمزق من قميصه . تريث قليلاً وتطلع من خارج قاعة الجوازات عبر الزجاج . أدرك أنه لو تقدم بجوازه ، فستوضع الأغلال في يديه فوراً ، فما أبطأهم في المساعدة والإنصاف وما أسرعهم في الظلم والإيذاء .
كسهم خاطف تحكمه الغريزة وحدها . استدار بيأس إلى خارج قاعة المسافرين في العراء . ابتعد في الظلام . ارتمى وسط كوم من مخلفات المواد الإنشائية قرب مدرج المطار . أكياس سمنت فارغة وقطع من اللدائن وأشياء أخرى . احتضن الكوم واختفى بين طياته . تسارعت أنفاسه حتى ما عاد يسيطر عليها . حدَّث نفسه : لن يطول الأمر كثيراً ، ما هي إلاّ دقائق وسيكتشف أمري ويلقى القبض عليَّ . ألقى النوم عليه أمنة حتى ما عاد يشعر بشيء . استولى عليه فملك كيانه . عُدِمَ عنده الإحساس بكل شيء . تساوى في ذلك الأمن والخوف .
(6)
(صباح جميل)
أطل الصباح بنوره الجميل بعدما انصرمت الدقائق والساعات بسلام . صوت خافت يصدر عن مذياع بعيد . القرآن الكريم بصوت (عبد الباسط عبد الصمد) المحبب إلى (سامر) أعاد الطمأنينة المفقودة إليه . همس : هذا صوت مذياع أحد الذين يتوقون لاعتقالي . صوت القرآن من مذياع جلادي أمدني بالقوة والثقة بالنفس . إنها مفارقة غريبة . تحسس جسمه . اطمأن أنه مازال سليماً معافى .
أوشكت الشمس على الشروق . خشي أن تفوته فريضة صلاة الفجر . ضرب منطقة الفخذين من ملابسه المغبرة بكفيه . مسح ظاهر كفه الأيمن بباطن كفه الأيسر وظاهر كفه الأيسر بباطن كفه الأيمن بعد مسح وجهه ليؤدي صلاة الفجر تيمماً . لم يتحرك من موضعه . تخيل حركات الصلاة ونطق بالكلمات والآيات همساً . اختلس النظرات من بين طيّات كوم المواد الإنشائية . أشرقت الشمس بنورها الساطع . أصبح المطار واضحاً بكل تفاصيله . كان السكون يخيم عليه . لا طيران نهاري لظروف الحرب . لا حراسات إلاّ نادراً . الدولة منيعة تمسك بزمام الأمر بالكامل ، تقبض بيد من حديد على كل مرافق البلد فلا حاجة بها لحراسات كثيرة .
فجأة . سمعت أصوات آليات وحافلات وهي تتجه إلى مدرج المطار . ترجل العمال منها . باشروا أعمال الصيانة على المدرج القريب . لاحت ابتسامة على وجه (سامر) لأن الفرصة قد تؤاتيه بوجود هؤلاء . راح ينسحب من مكمنه بحذر لئلاّ يجذب انتباه أحد . انتصب واقفاً على قدميه . نفض الغبار عن ملابسه . أصلح من هندامه قليلاً . توجه نحو المدرج القريب . اختلط بالعاملين بهدوء . لم يتحدث ولم ينبس بكلمة . لم يسأله أحد من أنت وماذا تريد . لعل عناصر الأمن شاهدوه فظنوه أحد العاملين في صيانة المطار . ولعل العاملين ظنوه من عناصر الأمن من الذين يندسون بين العمال للمراقبة . بقي بينهم لبعض الوقت ، لم يجرؤ أحد أن يوجه إليه أي سؤال .
(7)
الحرية المنشودة
حانت نظرة من (سامر) إلى خارج المطار . حدّث نفسه : يا إلهي ، مجرد سياج سلكي يفصل بيني وبين الإنطلاق إلى حيث الحرية . دقق النظر ، وإذا بفتحة مناسبة بإمكانه أن ينفذ من خلالها إلى الخارج . نسي كل شيء إلاّ عزمه أن يمضي في درب الحياة التي يريد . تقدم بخطى ثابتة صوب الفتحة . عبر من خلالها وهو غير مصدق . صاح بصوت خفيض : صرت حراً .. صرت حراً . توقعت أن يجذبني أحدهم إلى داخل المطار مرة أخرى . ماذا ، هل يلعبون معي لعبة القط والفأر ؟ هذه معجزة إن تحققت إلى النهاية . هل تركوني أهرب ليراقبونني ثم يقبضون عليَّ مرة أخرى في الوقت المناسب ؟ هكذا كان سجيننا يحدِّث نفسه . خطوات معدودة وإذا به يقف بانتظار سيارة للأجرة على الطريق العامة في مدينته الحبيبة . أومأ إلى سائق السيارة . طلب منه إيصاله إلى حي المنصور . بلغ وجهته . ترجل عن المركبة . كاد يصرخ ويقفز من الفرح لأنه عاد حراً طليقاً . لكنه عَدِلَ عن ذلك حينما تنبه إلى وجود المارّة المنطلقين إلى وظائفهم . هدأت نفسه وأخذ يستعرض ذاكرته كشريط سينمائي . عادت به الذاكرة إلى الماضي القريب . حينما أفلح في اجتياز الحدود عبر تلك الصحراء القاحلة . تذكر كيف أخذ يقفز مبتهجاً بالنصر وبالحرية وهو في الناحية الأخرى من الحدود . تذكر طعم نشوة التخلص من الإستبداد والقيد . تذكّر كيف عاد بالطائرة مكرهاً ، وكيف اتصل رجل أمن السفارة التي قبضت عليه هاتفياً ب (جانيت) الموظفة بمكتب شركة الخطوط الجوية لتحجز له مقعداً في الطائرة المغادرة إلى بلده ، وكيف أنصت إلى صوتها المسموع من خلال سمّاعة الهاتف الأرضي (ألو جانيت .. أجابت : الرحلة (800) على طائرة البوينغ (747) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.