[email protected] في كتاب حكاوي امدرمان خصصت فصلاً ، تحت عنوان جامعة توتي . لأنني تعلمت الكثير من أهل توتي . و أحببت توتي و أهلها . و صرت لا اطيق ان ابتعد عنها لفترة تزيد عن السنتين . و هي الفترة بين السابعة عشر من عمري و التاسعة عشر . قبل ذهابي الى أوربا . لأنني بدأت الدراسة و انا في الخامسة من عمري و لقد انتهيت من المدرسة الثانوية وقد تعديت السابعة عشر . و أدين لتوتي بتعلمي الكثير . و بسبب توتي صرت بحاراً و حواتياً و تربالاً . و تلك اسعد فترة في حياتي . بعد حضورنا من جنوب السودان سكنّا في حيّ الملازمين . و كنّا جيراناً للمربي الكبير محمد احمد عبد القادر . احد اعلام توتي . و هو من اعلام التعليم في السودان . و كان مثل المربي النصري حمزة ، أول من ورثوا النظار البريطانيين ، الذين اداروا مدارس السودان الثانوية الثلاثة . براون في حنتوب ، هانق في وادي سيدنا ،و جاض في خور طقت خارج الأبيض . و العم محمد احمد عبد القادر كان قد استلم خور طقت من البريطاني فيما بعد . و بعد تقاعده لم يرضى بالجلوس ساكناً . و أدار مكتبة في الخرطوم . عابدين محمد احمد عبد القادر ، رحمة الله على الجميع ، كان يكبرني قليلاً . و كان جارنا . و كان ممتلئاً حيوية . و كان شقيقه النور هادئاً مؤدباً . لا يتحدث إلّا قليلاً . و حتى عندما قابلته بعد عشرين سنة من تلك الايام ، في جامعة روستوك في شرق المانيا ، كان لا يزال هادئاً مؤدباً لطيفاً . منزل العم عبد القادر محمد احمد عبد القادر في حي الملازمين كان يتكون من جزئين و هو في شكل ( L ) و كان المنزل مفتوحاً و له حديقة و مسطبة عالية . و برندة كبيرة بأعمدة بيضاء ، و اشجار عالية . و كان مكاناً رائعاً للهو الاطفال . و على عكس بعض منازل حي الملازمين التي كان أهلها لا يسمحون بلعب الأطفال ، كانت الخالة نفيسة ترحب بنا . و نقضي ساعات طويلة للعب و تسلق الاشجار و نحس ان المنزل منزلنا . و كثيراً ما كان يمتلئ المنزل بالضيوف من توتي . و بما اننا كنا نستأجر منزل الياس دفع الله ، لقد طلب العم محمد احمد عبد القادر من والدي استئجار داره للمحافظة عليها . صارت الدار دارنا و ولد فيها اثنين من اشقائي . هما عبد السلام و بابكر بدري . و آخر مرة اشاهد بابكر بدري كان قبل موته بفترة قصيرة ، و هذا لكي يؤذن في اذن حفيده بابكر بدري . و كان يعرف الدار و صاحبها . في ايام العطلة المدرسية ، كان يتواجد مع عابدين و النور بعض الاطفال من أقربائهم من توتي و تعرفنا بهم . و أذكر اننا قد كوّنا فريقاً لكرة القدم . و كان رئيسة زين العابدين ، الذي كانت له روح قيادية خلّاقة . كما كان يقوم ببعض الحركات البهلوانية بالدراجة . و كان لا يخاف السقوط . و كان شقيقي الشنقيطي يشاركة في تلك الحركات البهلوانية و هما على ظهر الدراجة . إلّا انه يتراجع في بعض الحركات الصعبة و يقول لعابدين : ( انا اهلي ما قنعانين مني ) . و يضحك عابدين و يقول : ( يعني انا اهلي قنعانين مني ؟؟ ) و يواصل حركاته . كعادة امدرمان قديماً ان يهب النساء لمساعدة البعض . و أذكر انه عندما تزوج الاستاذ عثمان بالاخت اسماء محمد احمد عبد القادر . ذهبت والدتي و خالاتي للمساعدة و الخدمة . و في الثمانينات حضرت زواج ابنة عثمان في الخرطوم . و عندما قابلتها في لندن في منزل احمد قاسم مخير ، قبلتها على رأسها و قلت لها : ( انتي أول سيدة احضر زواجها و زواج امها ) . فلقد فرقت الظروف و السياسة بيننا و بين زين العابدين . و لكن عندما اتذكر الآن اقول ان تلك العائلة صاروا بمثابة الأهل بالنسبة لنا . و قديماً كان الجوار يعني الكثير . و كانت حكاوي عابدين والنور عن توتي منذ الطفولة الباكرة تحببني إلى توتي و تجعلني مشتاقاً لمشاهدتها . وعندما صرنا صبية كان يندر ان يمر العيد بدون ان نزور جزيرة توتي . و كان لتوتي و لأهل توتي سحر غريب يشد الانسان . عرفت فيما بعد من الكبار الذين عاشروا الاستاذ محمد احمد عبد القادر ، أنه كان عالماً . كما كان لطيف المعشر على عكس الصورة الصارمة التي كنّا نراها. و كان ساخراً و يجيد النكتة . و من القصص التي تتداول في السودان أن احد المسئولين سلم على الاستاذ محمد احمد عبد القادر بحرارة قائلاً : ( انت درستني يا استاذ ) . ثم قدم زميله للاستاذ قائلا: ( دا استاذنا محمد احمد عبد القادر ) . فقال المسئول الاخر بدون اهتمام : ( دا ابو زين العابدين ). فقال الاستاذ محمد احمد عبد القادر ساخراً : ( مؤكد يا ابني انا درستك . لكن دا انا ما درستو). من الشخصيات التي تركت انطباعاً عظيماً على تصرفات و وجدان طلابها كان الاستاذ غاندي . و هو استاذنا في مدارس الاحفاد سيد احمد عبد الرحمن . لم يحدث ابداً ابداً ان عاقب استاذنا غاندي ايّاً من تلاميذه . و كان له اسلوب مميز و كان رجلاً من نسيج خاص . و كنّا نستغرب أن يوسف بدري كان يحتد في بعض الاحيان مع الاساتذة . و منهم بيليفوكس الاسكتلندي الذي درسنا الجغرافيا . و هال مدرس الادب الانجليزي و هنوينق المستشرق و مجموعة من الفلسطينيين و اللبنانيين و اساتذه عظام مثل موسى المبارك و عبد الله البشير و الطيب ميرغني شكاك و حسن التاج وأمين الزين . و لكن لم يكن ابداً يقابل الاستاذ سيد احمد الا بالبشاشة و الاحترام . و كان الاستاذ غاندي فوق القانون و يحترمه كل الطلبة و المدرسون . و لا يجرؤ اي انسان ان يحاسبه . غاندي كان مدرس فنون . و كان فنانا بحق و حقيقة . و كان له ملكات كثيرة . و منها ملكة المسرح . و عندما ألف الاستاذ خالد ابو الروس ابو المسرح السوداني مسرحيته خراب سوبا ، كان يبحث عن دعم او طريقة لأخراجها . فعرضها على العميد بابكر بدري . و ساعد بابكر بدري في تقديم المسرحية . و شارك غاندي في الجزء الفني و أعداد المسرح و رفع الستار و الاخراج . و عرضت المسرحية في عدة اماكن في السودان . كنت استغرب من الاحترام الذي يلقاه الاستاذ غاندي . و عرفت أن بابكر بدري يكن له حباً شديداً . و لا يسأله حتى اذا تأخر . عرفت فيما بعد أن غاندي كان كل الوقت البرنجي في المدرسة . و هذه كلمة تركية تعني الأول . و لهذا سميّ السجائر بالبرنجي . و كان في فصل العميد يوسف بدري في مدرسة امدرمان الاميرية . و من تلك الدفعة الامام الصديق المهدي . الذي درس في رفاعة . قبل الانتقال مع يوسف بدري الى الخرطوم . الشباب في فترة الثلاثينات تأثر بفكرة التحرر الوطني و الانعتاق من السيطرة البريطانية . و كما تأثر الكثير منهم بالزعيم الهندي غاندي . و كان اكثرهم وعياً سياسياً و تأثراً ، الاستاذ سيد احمد و كان يدعو الى تلك الافكار . و لهذا عرف بغاندي . و كان من مجموعتهم الامير نقد الله ، فارس حزب الامة . الذي تأثر كذلك بأفكار حزب المؤتمر . و كان يقاطع المنتجات البريطانية كما دعى غاندي الزعيم الهندي . و كان يلبسون البسيط من الملابس . و يلبسون الدمور و المراكيب السودانية . و بعضهم مثل الامير نقد الله كان لا يشرب السكر . لأن على السكر ضرائب تذهب الى خزينة الدولة . ولقد حكم على البطل على عبد اللطيف بالسجن سنة لانه كتب موضوعاً بخصوص احتكار الحكومة للسكر . و كان هنالك الاضراب الشهير في كلية غردون . عندما توقف الطلاب عن الدراسة . و أتى السيد عبد الرحمن المهدي يطلب من التلاميذ الرجوع الى مقاعد الدراسة . و كما أورد الاستاذ محمد خير البدوي في رثائه ليوسف بدري ، و أورد يوسف بدري في كتابه( قدر جيل ) . بانه قد قفز في الطاولة العريضة التي وضع فيها الكرسي للسيد عبد الرحمن و قال له : ( الانجليز جابوك عشان نفك الاضراب . و أي كلام حا تقولو لينا حا يخش بهنا و يطلع بهنا . انحن عاوزين ندرس حاجات تنفعنا و تنفع البلد . و ما حا نقبل بسياسة الانجليز ) . ذهب يوسف بدري للدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت . لأن والده بابكر بدري رهن ذهب زوجته و أرسله الى الجامعة الامريكية في بيروت . و ذهب معه زميلهم و من نفس مجموعتهم البروفيسور ابراهيم قاسم مخير . صديقهم المشترك الذي سمى يوسف بدري عليه ابنه عميد جامعة الاحفاد الحالي قاسم بدري . و صار ابراهيم قاسم مخير أول عميد لكلية الصيدلة في جامعة الخرطوم . كثيراً ما كنت افكر ماذا سيكون مصير استاذنا غاندي اذا كان قد توفر لوالديه في الثلاثينات المال الذي يسمح له بأن يتبع صديقه الى الجامعة الامريكية . و هو الذي كان اميزهم في التعليم . و لكن كنت اعزي نفسي و اقول لو حدث هذا ، لم يمكن ان نسعد بوجوده معنا في مدارس الاحفاد . ابن عمتي حمزة محمد مالك الذي يتواجد في السويد . ذكر لي انه في احد اجازاته ذهب مدفوعاً بحبه الى استاذه غاندي في توتي . و بحث عن منزله الى ان وجده . و حمزة كان يحكي لي عن فرحة الاستاذ بلقاء تلميذه بعد السنين الطويلة من الغياب . و قدمه لبنته و اسرته . عندما يبحث التلميذ عن الاستاذ بعد سنين طويلة هذا يؤكد ان الاستاذ من نوع خاص . و هكذا كان استاذنا سيد احمد عبد الرحمن . من الاشياء اللطيفة التي يذكرها حمزة مالك عن استاذه انه عندما تعب من مشاكسة حمزة ، قام الاستاذ بنزع حمالات البنطلون و وضع الكلبسات بحقة الصعود . قبض على حمزة مالك و وضع الكلبسات في انفه . و صار حمزة مالك يعطس و يهتز و الفصل يضحك . و لم يجرؤ حمزة بعدها بازعاج الفصل مرة اخرى . و الاستاذ غاندي كان يتصرف كان حمزة ابنه او ابن اخيه . فلقد كان الاستاذ فناناً حتى في العقاب . في كتاب الاستاذ الطيب ميرغني شكاك (الاحفاد ) كتب كثيراً عن استاذه غاندي . الذي درسه في الاربعينات ، و صار زميله في الخمسينات بعد رجوعه من الجامعة الامريكية . و من قصصه أن احد اساتذة الدين و اللغة العربية كان متشدداً و صعباُ في التعامل . و لم يكن راضياً من الوضع الخاص الذي كان يحظى به الاستاذ سيد احمد في مدرسة الاحفاد و بابكر بدري له . و عندما كثر كلام الرجل و تتطاول على استاذنا ، قام استاذنا غاندي بضربه روسية و طرحه ارضاً . و واصل الرجل تقعره واصراره الحديث باللغة العربية الفصحى : ( اتطأطأ راسك يا استاذ سيد احمد و تنطحني ؟ ) . فقال له الاستاذ غاندي : ( و انطح .... زاتو ) . استغرب الاستاذ لأن بابكر بدري لم ينصره . و لم يكن يعرف ان الاستاذ غاندي كان فوق القانون . و بعدها بمدة قصيرة طلب الارتريون مدرسين من السودان . فقام بابكر بدري بأرسال استاذ اللغة العربية و الاستاذ غاندي الى ارتريا سوياً . و عندما عادا من ارتريا كان الاستاذ قد تغير و صار مفرفشاً بشوشاً لا يطيق فراق سيد احمد . فرسالة الاستاذ سيد احمد رسالة فن و بهجة و تواصل مع الآخرين . بابكر بدري كان مربياً موهوباً . و لهذا ارسلهم سوياً . و لكن ان تتصوروا سبب التغير الذي حدث للاستاذ المتشدد . في الخمسينات ألف الاستاذ الطيب ميرغني شكاك مسرحية حصار الخرطوم . و كان يطوفون بها كل السودان . و كان زميلنا فاروق حاج الامين شقيق الشاعر عبد المجيد حاج الامين يمثل شخصية غردون لأنه كان فاتح اللون و يجيد التمثيل . و كان يسافر معهم لكل انحاء السودان الاستاذ غاندي . و كان يتواصل مع الطلاب بطريقة تجعلهم يحبونه و يستمتعون برحلاتهم الطويلة بالقطار، مثل رحلتهم الى الابيض . و كان يشرف على التمثيل و الأخراج . و كانت لوحاته تزين خلفية المسرح و تتغير حسب المشهد . عندما ارادوا تقديم المسرحية في قبة المهدي ، رفض الانصار ان يقوم اي انسان بتمثيل شخصية المهدي لأن هذا حرام . فغضب الاستاذ الطيب ميرغني و ذهب الى السيد عبد الرحمن الذي قال له : ( انا فاهم يا ابني ، لكن الانصار ديل ما بقتنعوا ) . رجع الطيب ميرغني غاضباً . و طلب تفكيك المسرح . و لكن الاستاذ غاندي توصل لحل و هو أن يقرأ الطالب الذي يمثل دور المهدي من خلف الستارة و حلت المشكلة . عندما التصقت بتوتي كنت اتواجد بشكل يومي في توتي . و امكث مع استاذي رحمة الله عليه مبارك بسطاوي الذي كان يزرع الرأس الطيني في الجزيرة الهلالية التي تمتد بمسافة كيلومتيرين و تفصل توتي من أمدرمان . و تعرفت بشرف الذي كان مزارعاً كذلك في تلك الجزيرة . و عرفت انه شقيق زوجة الاستاذ غاندي . و توطدت صداقتنا بسرعة . و كان فاتح اللون . و كان قوياً بصورة ظاهرة ، إلا انه حقاني و دمث الاخلاق . و في احد الايام سألني : ( غاندي دا في مدارسكم دي بتدوه ماهية كم ؟ قبل الاجازة مشينا استلم قروش كتيرة خلاص . شئ ما بتحسب . وزع لأهلنا ديل كلهم النسوان و الصغار و الكبار ) . هكذا كان غاندي . كريماً بشوشاً مساعداً . و هكذا كان اغلب اهل توتي متكافلين متواضعين لا يفرق بينهم علم أو ثروة . الجميع سواسية و الكل اخوة . كم اتمنى ان تلك الروح لم تختفتي . رحم الله استاذنا غاندي . لقد ترك بصماته و أثر في حياة و وجدان آلاف مؤلفة من التلاميذ و الطلاب الذين حملوا روح غاندي معهم الى كل اصقاع السودان . كم اتمنى ان شباب توتي يذكرونه و كم اتمنى ان يطلق اسمه على أي مؤسسة أو مدرسة أو فصلاً في مدرسة . الآلاف من الطلاب الذين صاروا من مشاهير السودان و الذين لم تطأ اقدامهم جزيرة توتي ، عرفوها لانها كان بلد استاذنا سيد احمد عبد الرحمن ( غاندي ) . كان فناناً عميقاً و سياسياً . و لو حكم امثال الاستاذ غاندي السودان لكنّا في نعيم . في اثناء تواجدي في توتي كنت اشاهد استاذ غاندي و هو يصطاد سمك في الصباح الباكر و كان يأتي الى الجزيرة . و في بعض الاحيان ياتي بشبكة ( طراحة ) . و كنت اكتفي بتحيته . لأنني كنت الاحظ انه يكون في حالة تأمل و اقرب الى الشرود . فهو رجل فيلسوف . يغرق في حالات تفكير . مثلما كان يحب الناس كان يحب الاختلاء بنفسه في بعض الاحيان . سمعت من الأبن الرائع عمر بسطاوي الذي ترافقه الملائكة هذه الايام فهو عريس ، عندما كان يحضر دراسات عليا في السويد ، أن احد الائمة في توتي تحدث في خطبة الجمعة عن الذين لم يكن يأتون الى الجامع من قبل ، و الذين هداهم الله ، و الذين و الذين ... و عندما طال الكلام قال استاذنا الحبيب ( طيب ما تقول ليهم غاندي عديل ) . لتوتي ايقاع و طريقة حياة تمتاز بها . لها قوانينها و اعرافها . بعض أهل امدرمان الذين احبوا توتي كان الاخ عبد القادر الجزولي . و هو احد ظرفاء امدرمان . و هو عم عازف الكمان و المخرج التلفزيوني في براغ و الخليج ابراهيم الجزولي . كان صاحب مزاج و كان له مركب صغير من الحراز ( سرتق ) . و للمركب الوان زاهية و شراع نظيف . كان يأتي في المساء قبل الغروب و له منقد صغير و يقوم بشراء الحليب من اهل ( الضمي ) و هم البدو الذين يأتون بقطعانهم لشرب من النيل . و الكلمة تأتي من الظمأ . عبد القادر الجزولي كان يحضر مع صديقة اللصيق ( الكي ) . و كانا يصنعون شاياً بدون ماء فقط باللبن . و كانا يعزمان علينا بالشاي . و بأنني لم اكن اشرب الشاي قديماً و الى الآن ، فكان مبارك بسطاوي رحمة الله عليه يشاركهم شرب الشاي و نجلس للتسامر . خاصة بعد ان نكون خلصنا من قطف البامية او السلج او البازنجان و العجور و الكوسة . فمبارك بسطاوي كان يزرع ما يقارب الثلاثين حبلاً من الخضروات في منطقة ام كيعان ، و هذا اسم احد السواقي القديمة . و الحبال هي سباعية او ثمانية بمعنى سبعة اذرع ( الضراع يساوي 58 سنتمتر ) . و لهذا يقول العبقري خليل فرح في قصيدتة ( قدلة يا موالاي حافي حالق ) يقول فيها شمبات حبال و يقصد هذه الحبال . عبد القادر الجزولي كان يقوم عادة بعد العمل كترزي في سوق الموردة ، يسترخي بالحضور الى توتي في المساء ، و يشرب كوب او كوبين من الشاي . ثم يرجع بعد الاسترخاء . و كان يتحدث كثيراً عن حبة لتوتي و الراحة النفسية التي يحس بها عندما يكون متواجداً هناك . في احد الايام حضرت مبكراً في الصباح شاهدت مركب عبد القادر الجزولي عند المشرع و استغربت . لأنه عادة يربط المركب بكتلة ضخمة من الاسمنت و بطبلة يغطيها بالشحم حتى لا تصدأ . و لكن تلك الكتلة كانت على صدر المركب . و بما انني عندما كنت اساعد الريس ميرغني في ادارة المعدية في الايام التي يكون فيها مبارك في السوق صباحا لبيع الخضار . و كنا نقطف الخضار كل يومين . و عندما رجعت مع المركب كان (الكي) في انتظارنا في الموردة . و أخبرتهم بأن مركبهم في توتي . و لم يكن غاضباً . و عرفت انه لم تكن المرة الأولى التي يستعير بعض شباب توتي مركبهم . فأرجعته الى توتي و قطرنا المركب الى الموردة بواسطة المعدية . و عندما قابلت عبد القادر فيما بعد لم يكن غاضباً . بل كان يقول لي : ( الحمد لله الاولاد ديل ما غرقوا او جاتهم مصيبة ) و واصل ضاحكاً . ( انا ما عارف ليه ما بشيلوا مراكب النقادة ؟؟؟ و لا عشان المركب الملونة دي فاكرينها رفاس ) . قديماً لم يكن هنالك سوى البنطون الذي يتوقف في حوالي الساعة التاسعة مساء . و معدية امدرمان تتوقف مع المغرب . و بعض شباب توتي تتقطع بهم السبل في امدرمان أو الخرطوم . و لقد غرق البعض عندما اراد ان يأتي عائماً في الليل. و كنت انا في بعض الاحيان عندما افوت المعدية . كنت اذهب عائماً الى امدرمان . كانت هنالك سيدة تأتي في العصر . و هي تحمل على رأسها قفة ثقيلة مغطية . و كانت تجلس في مؤخرة المركب كالعادة . و لا تتحدث مع أي شخص . حسب اوامر الريس ميرغني لا أطلب منها نقوداً . و كانت تنتظر الى ان يذهب الجميع و كان هنالك رجل طويل القامة يقف في القيف . ثم يأتي بحمار ابرق الى الساري و يأخذ القفة و يذهب لحاله . و عرفت أن الجميع يغمضون أعينهم لأن البعض كان يحب ان يشرب العرقي من الشباب . و بدلاً من تعريض حياتهم للموت فليتوفر العرقي بمقدار معقول في توتي . أنها كنوع من فقة الضرورة و الحفاظ على أرواح الشباب . فلتوتي ايقاعها الخاص . و تلك القفة كانت تحمل اربعة جوالين . و السيدة كانت قصيرة القامة قوية . نحن في طريقنا من امدرمان الى توتي هبت ريح عاتية و كانت تمضغ الشراع بشراسة . و عندما يرتفع المركب و يهبط ، تدخل المياه الى داخل المركب . و كما يقول النواتة ( الموج فات الدير ) و الدير هو حافة المركب . كان الريس ميرغني يقبض على حبل الراجع بيدية الاثنين و الدفة تحت ابطه . و عندما ينتر الريح الشراع كان الريس يرخي الراجع ، ثم يسحبه من جديد . و الراجع هو الحبل الذي يشد الجزء الاسفل من الشراع حيث يشكل زاوية قائمة . و بجانب العيايير و التي هي الحبال التي تشد القرية او السارية و هذه ثابتة و دائمة لا تتحرك . و هنالك حبل المقدمة و هو قصير يشد نهاية حامل الشراع . و هذا يحول حسب اتجاه المركب ذاهباً او راجعاً . و هنالك اطول حبل في المركب و هو الذي يشد على الشراع و يربط في عود الكونية . و هي العواميد التي تمتد بطريقة افقية و تقسم المركب الى كونيات او عنابر . و هذا الحبل الطويل يعرف بالمرسيم . في كل مرة كان الريح ينتر الشراع ، نحس و كأنه سينقطع . فقال لي الريس ميرغني ( موت يا شوقي على المرسيم ). فلففت ساقي حول عمود الكونية و قبضت على المرسيم بيدي الاثنين . أرخي و أشد الحبل مع حركة الموج . حتى لا ينقطع المرسيم فجأة و يؤدي هذا لانكفاء المركب . تحدث أحد الشيوخ قائلاً بثبات و طلب من بعض الشباب ان يكون قريباً من بعض النساء لمساعدتهن . و كثير من نساء توتي يعرفن السباحة . و كان يقول ( ما تقعوا الموية مرة واحدة . الحمير ممكن تتطلع الزول . ما تحملوا عليها بس ختوا ايدكم ساكت بتطلعكم . ادو الموج ضهركم عشان ما يشرقكم ) . و كان يبدو كجنرال . و لم تبدي نساء توتي اي جزع او خوف . و وصلنا بسلام . و كنت افكر في معاناة اهل توتي . و أقول لنفسي ان هذه المصائب و المشاق هي التي كانت تؤلف بين الناس . أذكر و انا في تسلفاكيا انني قد سمعت بأن مركب قد غرق بين توتي و حلة حمد ، منطقة قصر الصداقة الحالي . فأهل توتي يدفنون موتاهم في بحري . و المركب كان يحمل جنازة و بعض المعزين . و غرقت الجنازة و غرق بعض المعزين . و تلك احد مصائب أهل توتي . و كم سعدت عندما شاهدت الكبري الجديد. طوبى لأهل توتي . و لهم عظيم الشكر. فقد أثروا حياتي . و كانت توتي جامعة دخلتها لأكثر من سنتين . و كما اوردت من قبل ان اكثر ما افتخرت به في حياتي هو ان الرئيس ميرغني كان يترك لي المركب لاديره وحدي . و كان هذا شرف لا يعادله اي شرف اخر في حياتي . فلقد كنت وقتها في الثامن عشر من عمري . التحية لأهل توتي و توتي . ع. س. شوقي بدري