من نماذج النشر الاعلامى المؤذى للمجتمع و الشرطة عباس فوراوى [email protected] قبل عدة أشهر مضت عايشت بحكم سكنى بمدينة الثورة بأم درمان ، وقائع جريمة قتلٍ بشعةٍ ، جرت بعض أحداثها الدرامية بأحد المنتديات الشبابية، وكانت خاتمتها مأساةً ،أودت بحياة ضابطٍ نظامى ينتمى لجهازٍ بالغ الحساسية، داخل شقة مفروشة كان يستأجرها . كنت متوجساً خيفةً من أن يسفر صباح الغد، فتطالعنا الصحف - بالذات تلك المتخصصة فى الهاب وتهييج غدتى القشعريرة والتنميل - بتفاصيل الخبر السيئ ، وتتبارى فى النسج ، و"الشتل" والتحليل، والتأليف، بحثاً عن ترسيخ مفهوم المبدأ السائد والخاطئ ، الذى يسيطر على الفكر الاعلامى القائل، بأن الخبر السيئ هو الذى يصنع اعلاماً جيداً فقط .لقد كنت حزيناً جداً كغيرى ، على لؤم الحادث الجنائى وكنت أكثر حزناً لأنَّ الضحية ضابط عظيم تنوء كواهله بأحمالٍ وطنيةٍ ثقيلةٍ ،ولكن حزنى تبدد بعد أن علمت دوافع الجريمة وأسبابها، والتى لم تخرج عن كونها نتيجة حتمية لفعلٍ ،ينطوى على كثير من البؤس السلوكى المشين، الذى يتطاول الى حد المرض الغير قابل للشفاء . طالعت صحف الغد فلم أجد أثراً أو خبراً ، فخالجتنى نفسى بأنَّ ثمة أصبع سبابةٍ قد أُشْهِر فى وجوهٍ أقلامٍ مسعورةٍ، وأنَّ عيناً حمراء قد انتاشت هواة نقل الأخبار الرديئة يومها، فسعدت ناعتاً ومبرِّراً الأمر بأنه تصرفٌ (حكيمٌ )، انتهجته وسائل الاعلام بتجاهل نشر تفاصيل هذا الخبر القابل للتمدد السلكأسلوب علاجى لمثل هذه الأحداث والأخبار، التى يسيئ تناولها وتداولها ،للمجتمع عموماً ،وللجهاز الحساس الذى ينتمى اليه الضحية سواء كان جانياً أم مجنىً عليه . فى حادث مشابهٍ خرجت علينا صحيفة الدار يوم الجمعة المنصرم ب (Main sheet ) كبير وبالخط الأحمر " ضابط شرطة يغتصب طفلاً عمره ثمان سنوات والمحكمة تردعه " وبتفاصيل مبهمة تفتقر الى الدقة والتبيين والكياسة وبعد النظر . الخبر المكتوب بلون الدم القانى يوحى للمتلقى بأنَّ هذا الضابط قد ارتكب الجريمة تحت شعار" الشرطة فى خدمة الشعب "، وأنه كان متدثراً بزيها الرسمى، وارتكبها أثناء تأدية واجباته كشرطى . بالتأكيد فان الغرض والمرض قد سمَوَا فأعميا كاتبتها- الباحثة عن "السبق الصحفى " -من التناول الايجابى لمثل هذه الأمور ، التى تبدو تداعياتها ومردوداتها المجتمعية أقرب للكارثية من الاصلاح أو حتى الاعتبار . الحقيقة تقول أن هذا الضابط الصغير حديث عهد بخدمة الشرطة ولا زال فى مرحلة الاختبار ،بل لم يمارس عملاً شرطياً يؤهله لتحمل تبعات أفعاله كشرطى محترف ،وبالتالى فانه لم يرضع من ثدى الشرطة لبنها الناقع ولذا فان ثمة جاهلية مدنية قد اعترت تصرفاته .الحقيقة الأخرى التى حورتها رواية الصحيفة- حسبما علمت- هى أن المتهم لم يحاكم ولم يدن تحت المادة 149جنائى (الاغتصاب) وانما تحت المادة (45) من قانون حماية الطفل (التحرش الجنسى) اللفظى وهو نظيرٌ للأفعال الخادشة للحياء والأدب وهو يوازى العمل التحضيرى لارتكاب جريمة الاغتصاب أو الأفعال الخادشة للحياء وبالتأكيد فان جريمة الاغتصاب لم تحدث لهذا الطفل البالغ من العمر أحد عشر عاماً وليس ثمانى سنوات ولله الحمد . قد يكون هذا المدان نفسه ضحيةً لهذا المجتمع الظالم الذى منه الأسرة، والمدرسة، والنادى ،والمنتديات الرديئة ،والاعلام الطائش غير المرشد، الذى يبيع أسباب الجريمة على قارعة الطريق كما تباع (عروق المحبة) بحثاً عن الثراء المادى والتميز الكاذب على حساب الكثير من القيم والمثل التى جبل عليها المجتمع السودانى المتسامح والمستور . بالطبع ليس من الأخلاق فى شئ أن يدافع أى شخص عن هذا السلوك الاجرامى المشين أياً كان درجته وخمول مفعوله، ولا ينبغى لنا ذلك أخلاقياً ومهنياً ودينياً ، ولا نملك سوى نفث فضائل الاستنكار والشجب والادانة، لأن المجنى عليه هو أيضاً من لحمنا ودمنا ،كما أننا، نسعد أيضاً بتوقيع مثل هذه العقوبات الرادعة أياً كان مصدرها، على أمثال هؤلاء . هنالك أسئلةٌ وتساؤلات تحتم الضرورة الاجابة عليها أو الوقوف عندها بتؤدةٍ وهى: لماذا يُعاقَب جهاز الشرطة بتدبيج مثل هذه الأخبار المقززة، وأى خدمةٍ نافعةٍ للشرطة استهدفتها هذه الصحيفة ؟ لماذا تستعدى وسائل الاعلام الناس على الشرطة، وما الذى يكسبه المجتمع من تجريم هذا الجهاز الحساس ؟ لماذا تجنح هذه الوسائط لممارسة مثل هذه الضغوط الاعلامية، التى تخلق وتولد شعوراً متزايداً بالاحباط، فى نفوس من يعملون لمدة أربعٍ وعشرين ساعة فى اليوم، فى ظروفٍ قاتلةٍ وبالغة الصعوبة فى دارفور، وجنوب كردفان، وشرق السودان، وفى مكافحة الارهاب وتهريب البشر والمخدرات وغسيل الأموال، والفساد وما لا تعلمه أمثال هذه الصحفية المتدربة؟ على الناس أن تعلم أن الشرطة ليست فصيلاً من الملائكة، وانما أمم أمثالكم، فلا يستقيم أبداً أخذُ أصحائها بمرضاها، أو حتى التبشيع بهم وبالآخرين الذين من بينهم هذا الطفل البرئ . على اخوتى فى الشرطة أن يعلموا، بأن ما ترميهم به مثل هذه الصحف، هو مكافأة لهم على كرمهم بفتح مصاريع أبواب حراساتهم، ومكاتبهم للمتدربين والمتدربات، ليقتات عبرهم بعض أهل الصحف، أخباراً ومعلومات و"شماراتٍ" ،تتحول فى اليوم التالى لبضاعةٍ مسمومةٍ تباع بالأسواق كما العمل الصحفى الصالح !؟ لقد كنت آملاً بأن تتولى الشرطة علاج مثل هذه الأمور داخلياً،عبر محاكمها الرادعة وبالعدالة التى تحفظ لأهل الحق حقهم وسمعتهم ، وللأجهزة الحساسة حقها كجهةٍ موثوقٌ بها بل قمينة ومسؤولةٍ عن ممارسة بسط الأمن القومى الشامل داخل البلاد ، وأنا وغيرى يعلمون مدى فاعلية ونجاعة العقاب والجزاء، اللذين يمكن أن يتم انزالهما على أمثال هؤلاء الجانحين، دون أن تكون سمعة الشرطة الكريمة فى مهب الريح . ان مثل هذا التناول الاعلامى السلبى للقضايا التى تكون الشرطة أو الأجهزة الأمنية الأخرى طرفاً فيها ، يساهم بفعالية فى زيادة وتفاقم التوتر، بين الأجهزة الأمنية والمواطنين ، ويصل مفعوله الى مضارب فقدان الثقة بين الطرفين بكل أسف، وعليه لابد من ترياقٍ مضاد، يحفظ للجميع حقوقهم وسمعتهم . اننا محتاجون الى اعلامٍ أكثر مهنيةٍ وحرفيةٍ وأقل أنانيةٍ ، ومحتاجون الى اعلامٍ ،يؤمن بأنَّ بسط الأمن على الكافة، هوثقافة دينية راسخة، وهدف سامٍ ،يستوجبان الزحف المقدس نحو ترسيخ مفاهيمه بين الجميع لمصلحة الأمن القومى الذى لا مكان فيه لمتلاعبين . يجب على الزملاء فى الاعلام عموما ، والصحف بصفةٍ خاصةٍ أن يعلموا ،بأنَّ ازالة التوتر بين المواطنين والشرطة مسألة ضرورية، ليس من أجل الشرطة فقط ، ولكن من أجل أمن الناس فى الشوارع، والبيوت، والمدارس، ودور العبادة والمنتديات ، وأماكن العمل المختلفة، ومن أجل حماية حياتهم وأعراضهم وممتلكاتهم لأن الشرطة خلقت لخدمة الشعب ولم تخلق كعقوبة له .