حديث المدينة محمد إبراهيم نقد.. عثمان ميرغني اعتاد أن يذهب بمحض طوعه إلى (تحت الأرض) هرباً من النظم السياسية المعادية له.. لكنه غادر هذه المرة إلى (تحت الأرض) هرباً من دنيا لم يعد يحتملها جسده أو عقله الذي كابد مآسي سنوات العمل السياسي الطويل.. ببطء أطفأ الأنوار واحداً تلو الآخر.. ثم نام.. الأستاذ محمد إبراهيم نقد.. زعيم الحزب الشيوعيّ.. ومن مستشفى في مدينة لندن أقفل القوس الأخير ليكتب على قبره (1930-2012).. ويترك خلفه سجلاً سياسياً حافلاً بالمعارك والشدائد.. الكر والفر..النصر والهزيمة.. كانت لي به صلة خاصة.. رغم تباعد المسافة الفكرية.. جلست إليه كثيراً في جلسات منفردة وكان يتحدث بصدق عن الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً.. أكثر هذه المرات إثارة.. في مرة رن هاتفي في الفجر الباكر.. دهشت للغاية لما رأيت رقمه في شاشة الهاتف.. لم أكن أتوقع اتصاله في مثل هذه الساعة.. رددت عليه وفي صوتي نبرة دهشة كبيرة.. قال لي ضاحكاً: (قوم.. النايم ليها شنو!!).. لم أفهم شيئاً في البداية.. لكنه واصل حديثه.. كان يعلق على أحداث وقعت في دارفور (آنئذ).. وكانت الحرب في ذروتها.. كان يتحدث بألم كبير عن الدمار الشامل في دارفور.. ويقدم تحليله وتوقعاته للقادم الأسوأ فيها.. وكنت أستمع بدون مقاطعة إلا من بعض الكلمات التي أنقل له فيها عبر الأثير متابعتي له.. لن أنسى هذه المحادثة أبداً لأنها استمرّت لأكثر من ساعة كاملة ومتواصلة.. ختمها بكل صدق.. وبذات الضحكة العفوية التي بدأ بها: (أرجو ألا أكون أزعجتك.. لكني كنت في حاجة لمن أتحدث إليه..). في إحدى زياراتي له في بيته.. قال لي: (نحن – ويقصد الحزب الشيوعي- والإسلاميون ضيعنا وقت الشعب السوداني..).. قدم حيثيات هذه العبارة القاطعة، فقال: (كان من الممكن أن نتفق على الحد الأدنى من المصالح الوطنية.. ونرمي بالخلاف السياسية والفكرية خارجها.. فنجنب البلاد كثيراً من الصراعات). قبل عدة سنوات من الانتخابات الأخيرة زارني في مكتبي في صحيفة (السوداني) قال لي: (أنا في رأيي ألا ننافس المؤتمر الوطني على المستوى القومي.. ونكتفي فقط بمنافسته في المقاعد الولائية..) تفسيره للفكرة.. أن تفكيك الدولة على مستوى المؤسسات الاتحادية أمر بالغ التعقيد خلال الفترة الانتقالية.. والأفضل ترك المؤتمر الوطني يكمل الفترة الانتقالية ثم منافسته لاحقاً. رحل (نقد) عن الدنيا دون أن يحكم ولو محلية يوماً واحداً.. ودون أن يتهمه حتى أقسى معارضيه بفساد ذمة أو ضمير أو وطنية أو حتى بسوء النية.. رحم الله نقد بقدر رحمته.. لا بقدر ما قدم (كما يخطئ الناس عادة بترديد هذه العبارة في مثل هذه المواقف..).. التيار