في مطلع شهر يناير عام 1996م، أعلن منظمو جائزة ابن رشد، تخصيصها في ذلك العام لمواطن عربي من بين الأفراد الأكثر إسهاماً في الدفاع قولاً وعملاً، عن قيم الديمقراطية في موطنه/ موطنها. وكان أول من حصلوا على تلك الجائزة المرموقة، المفكر المصري محمود أمين العالم. وطلبوا منا تفضلاً منهم، أن نرشح شخصية سودانية جديرة بالجائزة. فذهبت أستشير عدداً من أصدقائي في الولاياتالمتحدة. ولم يستغرق التفاكر أمداً طويلاً حتى اتحدت آراؤنا على ترشيح الأستاذ محمد إبراهيم نقد، بالنظر الى دفاعه عن مبادىء الديمقراطية منذ سني دراسته في حنتوب الثانوية، وجامعة الخرطوم التي فُصل منها بسبب نشاطه السياسي. بعدها سافر لمواصلة دراسته في بلغاريا. وتصادفت عودته في نهاية عام 1958م مع استيلاء الجيش على مقاليد الحكم. وكان الشيوعيون قد أصدروا تحذيراً مبكراً بأن قيادة نافذة في حزب الأمة تسعى لاستدراج كبار ضباط الجيش للاستيلاء على السلطة، على أمل أن يعيدوهم الى سدة الحكم بعد أن تستتب الأوضاع المأزومة التي أطبقت عليهم من كل الأقطار. لم تمضِ على الانقلاب المشئوم، بضعة أسابيع حتى اجتمع لبدء مناهضته عدد من الشيوعيين والنقابيين، من بينهم الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين وعوض شرف الدين ومحمد إبراهيم نقد وآخرون في دار جريدة الطليعة، لسان حال اتحاد عام عمال السودان. فداهم البوليس المجتمعين وقدمهم للمحاكمة، التي أنزلت عقوبة قاسية بحق الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين وعوض شرف الدين. وبرأت «الطالب محمد إبراهيم نقد» الذي عاد لتوه بعد إتمام دراسته في بلغاريا. ومن هنا بدأت مسيرته مع الاحتراف والاعتقال والاختفاء والسجون. وبعد مرور ما يزيد على خمسين عاماً من ذلك التاريخ، ربما يعد محمد إبراهيم نقد من أكثر المناضلين الأفارقة انخراطاً في النضال السري ضد الأنظمة التي تحجر الحريات المدنية والسياسية. وعمل منذ إتمام دراسته مناضلاً، متفرغاً في صفوف الحزب الشيوعي، وأمضى عدداً من سني شبابه ورجولته وخريف عمره في سجون السودان والمعتقلات والحبس المنزلي. في أول انتخابات ديمقراطية بعد ثورة أكتوبر(1964م) دفع به الحزب الشيوعي ضمن قائمة مرشحية عن دوائر الخريجين. فنال شرف تمثيلهم في البرلمان. وشارك ضمن وفد الحزب الشيوعي في مؤتمر المائدة المستديرة (مارس 1965م). وكما هو معلوم فإن بعض القوى السياسية أصابها الفزع بسبب الاتساع تصاعد لنفوذ الحزب الشيوعي. وحدث ما حدث عندما صوت نواب الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة و»الاخوان المسلمين» لصالح قرار تم بموجبه إسقاط عضوية النواب الشيوعيين من البرلمان. وبذلك انزلقت البلاد الى اتون معارك ساخنة لصون الديمقراطية، كان القضاء احد ساحاتها. فأصدر حكماً ببطلان قرار طرد النواب الشيوعيين. صدح به القاضي الجليل صلاح حسن، وقدم لقراره بحيثيات ناصعة تنم عن علمه الواسع ونزاهته، التي أصبحت وسماً لاستقلال القضاء السوداني، يهفو إليه طلاب الديمقراطية الليبرالية ومبدأ فصل السلطات في الدولة. إلا أن رئيس الوزراء آنذاك، السيد الصادق المهدي بمساندة الامام الهادي المهدي والدكتور حسن الترابي ورئيس مجلس السيادة اسماعيل الازهري رفضوا الانصياع لقرار المحكمة العليا. وحينها وقف نقد قبل أن يغادر هو ورفاقه قاعة البرلمان للمرة الأخيرة، وخاطب النواب المعنيين قائلاً: «إن شاء الله عديلة عليكم». مثلما ترددت اصداء العبارة الخالدة للنائب الهمام حسن بابكر الذي صوت ضد قرار الحل ووجه كلماته مثل الحمم نحو زملائه النواب «من الخير لي ولأبنائي أن أموت شهيداً من شهداء الحرية من أن أكون حرباً عليها». بالطبع لم تكن بقية أيام البرلمان بعد ذلك برداً وسلاماً. فدارت عليهم الدوائر بأسرع مما يخطر على قلب. وامعاناً في سريالية المشهد، عاد رئيس القضاء آنذاك (بابكر عوض الله) الذي استقال احتجاجاً على هدر استقلال القضاء، وسقاهم من ذات الكاس التي تجرع منها، بأن تواطأ مع ضباط ناقمين بسبب وأد الديمقراطية وتفاقم أزمة الحكم! وعلى العكس ما توقع الانقلابيون وقف نقد الى جانب قادة الحزب الذين عارضوا الانقلاب على السلطة المنتخبة – كما ألمح لذلك القاضي ابيل الير ضمن مذكراته. ومرة ثانية عاد محمد إبراهيم نقد الى النضال السري بعد أن تفاقمت الخلافات بين قادت انقلاب 25 مايو 1969م والحزب الشيوعي، وانتهت الى تصفيات دموية للشيوعيين وحلفائهم المدنيين والعسكريين. وأفلح الأستاذ نقد في أن يفلت من الاعتقال والتصفية الحتمية. وقبل أن تجف دماء رفاقه الشهداء، اجتمع من بقوا على قيد الحياة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي على مرمى حجر من مقر نميري وجهاز الأمن القومي، وانتخبوا الأستاذ نقد سكرتيراً عاماً. وقد تولى من موقع مسئوليته السياسية قيادة المقاومة ضد حكم الرئيس جعفر نميري على امتداد 16 عاماً من «تحت الارض» في ظل مطاردة كثيفة شنتها أجهزة المخابرات السودانية والأجنبية. ولم يتحقق لها مسعاها، بالرغم من أنه ظل يباشر واجباته على أتم وجه. وبفضل عناية الأسر والأصدقاء الذين آووه وقدموا له الحماية، ويسروا له تصريف مسئولياته غير مبالين بأسوأ الاحتمالات. حدثني أحد الأصدقاء ممن استضافوا الأستاذ نقد في أيام اختفائه، انطباعات كثيرة تمنيت لو قام بتسجيلها حتى تتيح الظروف نشرها كجزء من تراث العمل السري في السودان. وكانت أبرز انطباعاته عن تلك الأيام والأستاذ نقد، بأنه إنسان دؤوب يعمل في كل ساعة من ساعات اليوم بنفس الحماس وكأن الثورة على الأبواب. وبأنه يتعامل مع مقتضيات العمل السري بمزيج من الدقة والأنسياب كمن يمارس هواية رياضية محببة. وأنه ثابت الجنان في مواجهة مطبات تنذر بالخطر. ففي احدى المرات ذهب صديقي لمقابلته في وسط الخرطوم عائدين الى مسكنه. وفي الطريق وقفا لشراء «ساندوتشات فول» ونزل الاستاذ نقد من العربة وجلس في كوم حصاص. ولما عاد صديقنا وجده يتحدث حديثاً منساباً مع رجل من أفراد الشرطة، فودعه وهم بالانصراف والشرطي الطيب القلب يتابعه بالحديث «والله والله يا أستاذ الناس الزيكم ديل هم البصلحوا البلد..!» وكانت للشرطي فراسة! وعلق صديقنا للأستاذ نقد «يا أخي العسكري ده كان ممكن يتعرف عليك!» فأجابه نقد «طيب نحن زي ديل لو ببلغوا علينا، نحن المختفين ليها شنو؟» لقد عملت مع مجموعات من الشيوخ والشباب أثناء الحملة الانتخابية (1986م) في الدائرة 23 بالخرطومجنوب. ولازلت أذكر حديثه للمشاركين في الحملة الانتخابية، وجلهم من الشباب. فحثهم على تنظيم الحملة الانتخابية بدقة عالية من اليوم الأول وحتى إعلان النتائج. فمعركة الانتخابات تتحدد نتيجتها في فترة تسجيل الناخبين، وطلب منهم أن يكونوا أول المصطفين لتسجيل أسمائهم وأول من يدلوا بأصواتهم. وكرر مراراً بأن يراعوا بعناية حق منافسيه في الدائرة، والبعد عن المهاترات أو العمل بأساليب ملتوية أو التعدي على حق المنافسين بالاستفزاز أو التحرش أو نزع ملصقاتهم، أو عمل مخالفات تعارض قوانين الانتخابات. وذكر في آخر لقاء له مع أبنائه وبناته المشاركين في حملته الانتخابية، «يعني اذا فزنا بالدائرة ما حيكون كتير علينا.. وما حنطق الروري..!» ‘ – تعبيراً عن النشوة الزائدة. «واذا سقطنا فإن ذلك لن يكون «يوم القيامة، وما حتكون هي المرة الأولى أو الأخيرة التي نسقط فيها». وقد أعجبني حديثه وعمق إيمانه بقواعد اللعبة الديمقراطية. وكان في كل زياراته لمراكز حملته الانتخابية لا يختم حديثه إلا بتذكير المشاركين، بأن لا يثقلوا على الأسر التي تستضيفهم أو جيرانهم. والحرص على تجهيز احتياجاتهم من ماء وثلج بأنفسهم، والحرص على ان تكون اجتماعاتهم قصيرة. وأن يتركوا أماكن اجتماعاتهم نظيفة ومرتبة كما كانت عليه. وقد حرص على الطواف على الشيوخ من سكان الحي ومجاملتهم بعبارات مهذبة وذكية. أرى بأن كثيراً من الذين صوتوا لصالحه، قد لمسوا بفراستهم أن هذا الرجل من معدن في صفاء الذهب. احتفت القوى الديمقراطية بعودة الحريات الديمقراطية وكرمت الأستاذ محمد إبراهيم نقد بانتخابه للبرلمان (1986م) عن الدائرة 23 الديوم الشرقية، والعمارات. التي وصفها نقد في ممازحته المعهودة بأنها تحولت الى «منطقة ضغط عالي». وكانت مشاركته في البرلمان آنذاك مشاركة رصينة لم يتغيب عن أي من جلسات البرلمان. وكما ذكر النائب البرلماني عن الحزب الشيوعي آنذاك، جوزيف موديستو، بأن نقد حثهم على أن يكونوا أول الداخلين الى قاعة الجلسات وآخر المغادرين. وكان هو اشدهم التزاماً بذلك. وقد اتاح لي الظرف أن ألتقيه بصحبة الدكتور إبراهيم كرسني في مهمة ما. وأذكر بأنه التقانا خارج مكتبه ونظر الى ساعته ودعانا الى الكافتيريا. ولم يكن بها غير واحد من النواب، بدا وكأنه من نواب الاقاليم. فتوجهنا الى طاولة في ركن قصي، ومن على البعد نادى علينا النائب الشيخ: «يا الأستاذ.. المستقبل ليكم! فرد عليه نقد بضحكة مجلجلة: لينا سوا .. سوا..! تفضل علينا الشيخ بأمنية يتهلل لها القلب، فلم يستأثر بها نقد. ورد عليها بأحسن منها. نعود لجائزة ابن رشد وقد شرعت في عمل الاتصالات برفاقنا في القاهرة لاستشارتهم في المقترح. وكان رأي الراحل العزيز تيجاني «ما تكلم محمد.. ما حيوافق.. بس خليني أتكلم معاه. وأعتقد بأنها فكرة كويسة». وطلب مني أن أستعين بالاستاذ فاروق أبوعيسى للحصول على مساعدته في جلب دعم الأصدقاء المصريين ممن حصلوا على الجائزة من قبل. ومن هنا بدأت عملية البحث عن مجموعة من السودانيين والأجانب من مواقع سياسية وفكرية متباينة لتأييد ترشيح الأستاذ نقد لجائزة ابن رشد. ووقف الى جانبي صديقنا أحمد الدابي عضو حزب الأمة، وهو من المقدرين لنضال الاستاذ نقد. فاقترح علينا أن يتصل بقادة حزب الأمة في الخرطوم. وتهاتف مع الراحلة العزيزة سارة الفاضل – حرم السيد الصادق المهدي. ونقل الينا فيما بعد بأنها رحبت ايما ترحيب بترشيح الاستاذ نقد لأي جائزة في الدنيا تقديراً لنضاله. وأبدت أسفها بأن السيد الصادق لم يكن متواجداً في السودان. وفي غيابه، اقترحت الاتصال بالدكتورآدم مادبو، نائب رئيس الحزب أنذاك، وكذلك الراحل الدكتور عمر نورالدائم بحسبانه صديقاً وزميلاً للأستاذ نقد منذ سني الدراسة في حنتوب الثانوية. بعد ذلك سعينا للاتصال بشخصيات سودانية وأجنبية من مضارب متعددة. فتحدثت الى البروفيسور محمد إبراهيم خليل، وزير الخارجية الأسبق، ورئيس البرلمان في العهد الديمقراطي، فلم يتردد في ترحيبه بالفكرة . وكذلك أجريت اتصالاً بعدد من السودانيين منهم الفنان الكبير محمد وردي، والراحل العزيز الخاتم عدلان، والأستاذ بونا ملوال، ولم يتردد أي من هؤلاء في إبداء تأييده لترشيح الاستاذ نقد. ولازلت أذكر على وجه الخصوص العبارات الرزينة التي سجلها الراحل العزيزالخاتم عدلان رغم مرارة المفاصلة مع رفقائه السابقين. وقال بأنه لا يتردد في تأييده لجهدنا، باعتبار محمد إبراهيم نقد من أبرز المدافعين عن الديمقراطية. وكانت هذه من إشراقات تلك الحملة التي تعدت شخص الاستاذ نقد باعتبارها تقديراً لنضال الشعب السوداني أجمعه، لاستعادة الديمقراطية. وأنا أقدر بأن الاستاذ نقد يتأفف من مثل هذه الإشارات الى نضاله. وكان همي الأكبر بأن الرمزية في هذه الحالة تفوق أي اعتبار يحسبه البعض من قبل التحزب الضيق. ونقد عندما يتحدث في مناسبات عديدة تضم خصومه السياسيين لا يكف القول «بأننا جميعاً نتوحد تحت راية الوطنية السودانية العريضة». وهذه العبارة ليس من باب المجاملة العابرة ولكنها تعبير عن ايمانه العميق بأن هنالك قاسماً مشتركاً أعظم يوحد الوطنيين السودانيين رغم اختلافاتهم العميقة. أكاد أجزم بأن جائزة ابن رشد منذ انطلاقها لم تشهد مسلكاً جماعياً لتزكية مرشح لها. ولو استنطقت حينها لما توانت في الانحياز لترشيح الأستاذ محمد إبراهيم نقد الذي دافع عن قيم السلام والعدالة والديمقراطية بمثل ايمان الأعاجم. دفاعاً بالفكرة النيرة، والخطاب السديد، وأفرع الشجر والحجارة درء لما أسماه الدكتور حسن الجزولي «عنف البادية» الذي استهدف دور الحزب الشيوعي في منتصف ستينات القرن الماضي. بقيَ أن أذكر بأن جائزة ابن رشد في ذلك العام منحت للمناضل الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة. هو حريُّ بالجائزة والاحتفاء بسبب مواقفه الشجاعة كأحد النواب العرب ممن طردوا من الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي بسبب دفاعه عن حقوق الشعب الفلسطيني. الاحداث