[email protected] في منتصف تسعينيات القرن الماضي والأمطار تضرب جدران بيوتنا المتصدعة فتتكهرب تلك الجدران بسبب التوصيلات الكهربائية المهترئة التي تمر من خلالها، وأنا أتحرك هنا وهناك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأمي تكرر نداءاتها لي ( ما تمسك الحيط...حيطة المطبخ لا .. حيطة الحمام لا ..حيطة الغرفة لا ..باب الشارع فيهو ماس)..! حتى لا تصعقني الكهرباء. فتصبح ميتة وخراب ديار..! وحالها معي يذكرني رجاءاتها لي كلما شرعت في الكتابة في الشأن العام فتقول (سياسة لا.. اقتصاد لا.. فساد لا.. يا ولدي سيبهم في حالهم..السودان ده حقك أنت براك ما كل الناس شايفين وساكتين)..! وحالها حال كل أم تخاف على أبنائها مما قد تجره عليهم المجاهرة بآرائهم. كثيراً ما يسألوننا زملاء العمل : لماذا أنتم تغتربون ( أي السودانيون )..؟ وسؤالهم بقدر ما يبدو سهلاً لكل قارئي غير انه ليس كذلك.. نقول بكل بساطة البلد الذي تتوفر فيه مائتي مليون فدان صالحة للزراعة وتعد من أجود أنواع الأراضي الزراعية في العالم يستورد 86% من قمحه، وكذلك يستورد الثوم من الصين والفول من أثيوبيا والخضروات من الأردن .. والأردن بلد تشكل الجبال الحجرية 70% من مساحته الكلية ولا تزيد نسبة ألأراضي المستزرعة عن 4 % ..! البلد الذي يمتلك أربعين مليون رأس من الأبقار لا يستفيد منها إلا ( بربع ) مليون فقط، بلد غني بالمراعي والأنهار يترك كل هذه النعم ويستورد اللبن من بلد صحراوي مثل السعودية..! ويدفع سنوياً من خزينته العامة 120 مليون دولار لتأمين حاجته من لبن البودرة المستورد..! البلد الذي يزرع قصب السكر وبه ستة مصانع سكر يستورد (سُكره) من دول عربية مجاورة..! البلد الذي يمتلك ثروة سمكية تقدر ب (100) ألف طن للمصائد الداخلية و( 10 ) ألف طن للمصائد البحرية وإمكانية استزراع الأسماك ليتضاعف الرقم عشرات المرات تنتظر أسواقه ( عِلب التونة والساردين ) وارد تايلاند والفلبين وهما يبعدان عنا مسافة عشرة الآف كيلو متر ويزيد..! بلد غني بموارده الطبيعية وثرواته الزراعية والحيوانية مثل السودان جدير بأن يكون بلداً نموذجياً للصناعات الغذائية، بل يصدر للدول المجاورة لا أن تكون أسعار الخضروات في أسواقه أعلى من نظيرتها في دول عربية لا شأن لها بالزراعة.. بلد الفول والسمسم وعباد الشمس يستورد جميع احتياجاته من الزيوت النباتية بما يفوق المليار دولار سنوياً..! بلد كان به أكبر مشروع زراعي يأكل كل السودان من ( سنامه ) وهو مشروع الجزيرة.. أصبح الآن هشيماً تزروه الرياح، بفعل السياسات الإدارية المتخبطة وسوس الفساد، رجع القائمون على الأمر لإنقاذه لكن كما قال الفنان الراحل وردي في أحدى أغانيه ( بعد أيه )..؟! بلد بعد أن كان يفاخر بقوته الاقتصادية، يتلقى اقتصاده ضربة قاضية جراء فقد جزء كبير من عائدات النفط، فلا يجد زراعة تسعفه أو صناعة يتكئ عليها، ليكتشف الناس صيحات ( السد السد الرد الرد ) ما كانت إلا نوع من التهريج ليس إلا خاصة وأن السودان الآن يستورد جزء من الطاقة الكهربائية من إثيوبيا..والأذن لا تُغني عن العين.! والانجازات مهما بلغ علوها لا تغني عن الحقول الخضراء، فالزراعة هي الاقتصاد الحقيقي، والاقتصاد الآن هو دقيق المواطن وزيته، ألستم من قلتم من لا يملك قوته لا يملك قراره..؟! فأي قرارتمتلكه العقلية التي تستورد النبق ..؟! زملائي لكم الحق في تسألكم ( لماذا نحن مغتربون.؟ ) ولنا الحق في حيرتنا في الإجابة على تساؤلكم .. هل ادركتي يا أمي أن ( مسك الحيط ) - حتى لو كانت مكهربة - أفضل من غرق البيت وسقوطه على رؤوسنا..؟!! محمد علي الشيخ