أعلن الطوارق قيام دولة مستقلة لهم في شمال جمهورية مالي، وذلك غداة حصول انقلاب في هذه الجمهورية، واستطاعت قوات الطوارق المسلحة أن تسيطر على الولايات الشمالية الثلاث، وأن تشكل نواة لدولة أمازيغية مستقلة، تطمح أن تمتد شمالاً وغرباً، لتوسع رقعتها، بما يؤهلها لتكون دولة قابلة للحياة والاستمرار. وكانت أحداث ليبيا قد ساعدت على إنشاء القوة المسلحة الأمازيغية التي تزودت بالقوة والسلاح والمال، بعدما تحالف قسم كبير من الأمازيغ مع نظام العقيد القذافي، وحاربوا في صفوف كتائبه، ودافعوا عن نظامه السياسي، وجراء ذلك جمعوا مبالغ مالية وإمكانات تسليحية وخبرة عسكرية وحربية وتدريبية كافية، تؤهلهم كي يقوموا بما قاموا به. فتح هذا الإعلان الأمازيغي الباب على مصراعيه أمام حزمة من الإشكالات والمخاطر في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وشمالها وغربها، كما أدمى جروحاً أفريقية كادت تلتئم بعد خمسين عاماً من استقلال دول أفريقيا، وأعاد العجلة إلى الوراء، إلى ستينات القرن الماضي، بعيد استقلال الدول الأفريقية، واتفاقها في مؤتمر أديس أبابا عام 1963 على نواظم وضوابط وأهداف لدولها الفتية. أهمها المحافظة على الحدود التي رسمها الاستعمار، وعلى الواقع الموروث بكل تناقضاته الاثنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأعني هنا توقيع هذه الدول على عهد يثبت الحدود القائمة، كما رسمها الاستعمار الأوروبي، الذي لم يراعِ فيها لا الشروط الاثنية ولا الطبيعية ولا التاريخية ولا الثقافية لإقامة الحدود، فقد كانت هذه البلدان، عند تأسيسها، مملوءة بالتناقضات أو على الأقل بالتباينات. ولم يكن بالإمكان في الواقع أن لا يتم تثبيتها كما رسمها المستعمر، لأن الدول الأفريقية فضلت الاستقرار والأمن على حق تقرير المصير، على أمل أن تطبيق معيار المواطنة سوف يحقق في المستقبل، انسجاماً بين الاثنيات والطوائف والثقافات، ويصهرها في بوتقة واحدة هي بوتقة المواطنة الجديدة، وفي نسيج اجتماعي وثقافي واحد، وبالتالي يزيل خطر التباينات والتناقضات. وعلى أية حال لم يكن بالإمكان بعد تحرر هذه البلدان إعادة النظر بالحدود، وتقسيم أفريقيا من جديد، واضطر جميع القادة الأفارقة في ذلك الوقت إلى إقرار الأمر الواقع والحدود القائمة. لسوء الحظ، بل لسوء أنظمة الحكم، لم تُطبق معايير الدولة الحديثة، ولم يوجد مجتمع المواطنة المنسجم في هذه البلدان، وبقيت الانقسامات عمودية (اثنية، طائفية، ثقافية) كما بقيت المجتمعات تحمل تناقضاتها في أحشائها، أي أنها، بقيت مجتمعات هشة تنتظر الفرصة لتفرط عقدها، وتسير كل مجموعة منها في طريق مختلفة عندما تحين الفرصة، إلا أن مصالح الدول الأفريقية، وخاصة الأغلبيات الاثنية فيها، ومصالح الدول الاستعمارية القديمة، أبقى على وحدة هذه الدول وأراضيها، حتى لو كانت وحدة هشة. ولكن ذلك لم يلغ التناقضات الموجودة ولا احتمالات الانقسام والانفصال حيثما توفرت الظروف، وهذا ما حصل في هذه الدولة أو تلك، وعبر عن نفسه في انفصال جنوب السودان وتشكيل دولة مستقلة فيه، وشمال الصومال وتشكيل دولة (أرض الصومال المستقلة) وها نحن نشهد الآن قيام دولة في شمال مالي، هي دولة (الأزواد المستقلة) التي قد تكون مقدمة لقيام دول أخرى، وبالتالي تقويض اتفاق 1963، وإدخال أفريقيا في برزخ من الانقسامات والتذرر يصعب تقدير نتائجه. لقد كانت الأنظمة السياسية الأفريقية وخاصة في (جنوب الصحراء) خلال نصف القرن الماضي، أقوى مما هي عليه الآن، ولذلك فشلت محاولات انفصالية عديدة، بسبب قوة هذه الأنظمة السياسية من جهة، وإصرارها على تطبيق اتفاقية 1963 والحفاظ عليها ودعم دول اتحاد الدول الإفريقية لها من جهة أخرى، ولذلك فشلت في السابق محاولة الصومال استرجاع أوغادين، ومحاولات تقسيم رواندا وبوروندي، وإعادة تقسيم تنزانيا، وتم القضاء على الحركات الانفصالية في معظم الدول الأفريقية. إلا أن طبيعة التطور الدولي والسياسي والأيديولوجي (المفاهيم الجديدة للمواطنة وللديمقراطية وللحرية وغيرها) ومواقف التكتلات السياسية العالمية (الاتحاد الأوروبي، والولاياتالمتحدة ودخول الصين الكثيف أفريقيا وغيرها..) أدى لنمو الحركات الانفصالية في بلدان أفريقيا من جديد، وتنذر الشروط الموضوعية و(الذاتية) ببدء سلسلة من الانشقاقات وحركات الانفصال التي قد تعرض مستقبل دول وبلدان أفريقيا لخطر التقسيم. كان (ومازال) للاستعمار الأوروبي القديم، وللنفوذ الأميركي الجديد، دور في التأثير على تطور بلدان أفريقيا، وإطفاء النيران التي تشتعل فيها، بعد تطور درامي في سنوات الاستقلال الأولى، حيث شهدنا ذلك بوضوح في أنغولا، وزيمبابوي وفي ساحل العاج، وفي دول وسط افريقيا، وفي دولتي الكونغو وغيرها، ومن المؤكد، حسب التصريحات الرسمية لقادة الاستعمار (السابق)، انها تريد الآن المحافظة على حدود الدول القائمة من جهة، وعلى استقرار هذه الدول من جهة أخرى. وهذا ما أعلنته في الأيام الماضية تعليقاً على أحداث مالي، فهل تمتلك هذه الدول الرغبة والقوة والقدرة السياسية والعسكرية، بالتعاون مع المنظمة الأفريقية، التي تؤهلها على أن تعيد الأمور إلى نصابها، وتقضي على النزعات الانفصالية التي تهدد استقرار الدول الأفريقية؟ أفرز إعلان (الأزواد) دولة مستقة للطوارق، سيلاً من المخاطر أمام الدول المغاربية، باعتبار الوجود الأمازيغي في هذه الدول، والوجود الزنجي في موريتانيا، وعدم حسم مشكلة الصحراء الغربية، كونه مثالاً قد تحتذي به أقليات اثنية أو طائفية إفريقية أخرى، وسيفتح هذا الحدث، حتى لو فشل، أبواباً جديدة على تطور جديد في بلدان شمال أفريقيا وغربها، وكلها لديها مجتمعات متخمة بالتباينات والتناقضات، التي تشكل مناخاً مناسباً للانفجار والانقسام وولادة دول جديدة، سواء كان لهذه الدول إمكانية الاستمرار والاستقرار وامتلاك الشرط الموضوعي لقيام الدولة أم لم يكن. [email protected] البيان