بقلم: عمر الدقير [email protected] يغوص الوطن، أي وطن، في مستنقع الأزمات ويتدحرج نحو الهاوية عندما يتماهى النظام الحاكم مع الوطن ويستقر في يقين هذا النظام أنه والوطن كيانٌ واحد. فالنظام في هذه الحال يصادر الوعي العام وينتدب نفسه وصياً على الوطن يفعل فيه وبه ما يشاء، ولا يجد حرجاً في رفع السيف لاعتقال العقل الجمعي لأبناء الوطن لينوب عنهم في التفكير والحلم وصناعة المصير. إن نظاماً كهذا يسجن نفسه في حلقة مغلقة من الوهم والزيف لا يسمع فيها غير صدى صوته الذي يرتدُّ إليه من المؤسسات التي صنعها هو من برلمان مزور وصحافة مقيدة وإعلام مُضلِّل وأجهزة أمنية لكمِّ الأفواه إلى غير ذلك من مؤسسات الزور والجور. وليست هناك من نتيجة لهذا الوضع سوى أن يكون النظام أسيراً لنهج الإقصاء والثوابت الذاتية الضيقة وعاجزاً عن توجيه بصره إلى المستقبل وقبل ذلك إلى تحديات الحاضر، ومع كلِّ هذا يُصاب بمرض المعصومية وغياب حاسة النقد والمراجعة فلا يتعلم من درس أو يستفيد من تجربة ولا يعترف بعجزه وفشله، ومهما تراءت أمامه دلائل العجز الفشل لا يقابلها بغير المكابرة وإنكار الواقع المتردي. عقيدة تماهي النظام مع الوطن هي ما جعل نظام الإنقاذ يفرض نفسه ممثلاً وحيداً للضمير الوطني يحتكر القرار المتعلق بحاضر الوطن ومستقبله ومصيره ويتعاطى معه بانفرادية بائسة متجاهلاً كل الأطراف الأخرى في التشكيل السياسي والاجتماعي السوداني وكأنها غير موجودة بالمرة. وما جرى في نيفاشا عام 2005 وما ظلّ يجري بعدها ما هو إلّا نتاج لهذه العقيدة الاقصائية .. فالخيار الأسلم والأبهى، في نظر كلِّ عينٍ غير هذه الحولاء، يتمثل في إدراك أن أزمة السودان لا يمكن حصرها في مشكلة الجنوب وحدها وإنما من خلال الإحاطة بالجذور القومية للأزمة، ومشكلة الجنوب واحدة من أبرز علامتها، وأنه لا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلا عن طريق حوار صريح وجاد ومتكافئ بين كافة المجموعات الوطنية السودانية، باختلاف أطيافها ومشاربها، يخاطب جذور الأزمة ومظاهرها في السياسة والاقتصاد والمجتمع ويفضي لتسويات ومصالحات تاريخية ومن ثم يضع مداميك راسخة لبناء وطني جديد يتجاوز عثرات القديم وخيباته ومراراته وكلَّ ما كان مشكواً منه. بإمكان المرء أن يجزم أن الأمور ما كان يمكن أن تؤول لما آلت إليه من واقعٍ مأزقي لو ارتفع نظام الإنقاذ إلى مستوى المسؤولية الوطنية وقبل بمشاركة الآخرين في مفاوضات نيفاشا والاتفاقية التي تمخضت عنها أو حتى سمح بمشاركتهم في مفاعيل هذه الإتفاقية بعد توقيعها. لكن من الواضح أن النظام لم يكن معنياً بشئ قدر عنايته بتأمين قبضته على السلطة واحتكارها، فصدَّق شيطانه الذي دلَّه بغرور وقاسمه أن حصر الاتفاقية مع الحركة الشعبية دون سائر غرمائه سيضمن له مُلكاً لا يبلى خصوصاً بعد أن وعده رعاة الاتفاقية بالاعتراف بشرعيته ومساعدته اقتصادياً وشطبه من لائحة الإرهاب إلى غير ذلك من الوعود العرقوبية، ليجد نفسه في نهاية الأمر أمام مزالق لا قيعان لها وأزماتٍ تنخر في قوائم كراسي السلطة التي في سبيلها أحلَّ قومه دار البوار، إذ لا وطناً موحداً لهم أبقى ولا سلاماً أنجز ولا رخاءً صنع ولا حريةً أتاح. ورغم كل هذا البوار لم يفق نظام الإنقاذ من غيبوبته ولم يستبن النُّصح وما زال أسيراً لعقيدة تماهيه مع الوطن وتغييب الدولة في حزبه "الرائد"، حيث يصر على التعامل مع تداعيات الإنفصال وأكلافه من منظور حزبي ضيق رافضاً إشراك غيره في معالجتها وضانَّاً حتى على شركائه في ما يسمى بالحكومة العريضة بالتمثيل في وفد التفاوض حول القضايا العالقة مع دولة الجنوب، وكأنه لا يوجد من أفراد الشعب السوداني من هو جديرٌ بتمثيله غير هؤلاء النّفر الذين ظلوا سنين عددا يحتكرون التفاوض باسمه ويصوغون له مصائر ليست هي مصائره الحقيقية ويضربون له مواعيدَ ليست هي مواعيده التاريخية. لكن مهما يكن، تبقى الأغلبية المُغيَّبة عن صياغة مصائرها تختزن أوجاع المخاض في معاناتها وبؤسها وتهميشها، ويبقى الرهان عليها رابحاً لأنها ضربت موعداً مع ولادة الفجر وإن تأجل.