سلامة الباشا.. من عاصمة صغيرة.. الى قرية كبيرة ! محمد عبد الله برقاوي.. [email protected] عهدى بالخرطوم عندما جئت وأنا صبي دون العاشرة برفقة والدي في حوالى عام 1962 فكانت حدودها الجنوبية ونحن ندخل اليها من الجزيرة مثلا ! تنتهي عند زاوية سور المطار وحينما لمحت الطائرات جاثمة ولم أكن أتخيلها بتلك الضخامة اذ كان في تصوري أنها في ذلك الحجم الذي نراها عليه وهي تسبح في الفضاء ونحن صبية ، نتغالط ان كانت تلك طائرة أزهرى أم طائرة عبد الله خليل ولاحقا عبود! ما أن شاهدت ذلك المنظر حتى كدت أسقط من نافذة الحافلة وأنا أتقافز وسط ضحك الركاب الذين كانوا ينظرون الى أبي وهو يشدني اليه من بين صرخاتي .. الطيارة الطيارة الطيارة ! كان كل شيء في خرطوم زمان مرتبا ومعدا تبعا لخطة تبنى قياسا على عدد السكان ، فتفي الخدمات دورها المطلوب وفقا لذلك ! كنت تشاهد عمال تنسيق وسقاية الزراعة وهم يجتهدون في جعل الشوارع حدائق ممتددة على مساحة البصر فتجعل نهار العاصمة أريجا لا ينقطع وهو يملاْ ذاكرة الشم ، ليبدأ تمازج ألوانها الجميلة مساءا مع انعكاسات الأضواء التي تتدفق كالشلالات في الطرقات وواجهات المحال ، حيث ألهمت الناس على تسمية اشياءهم الرائعة التي تعجبهم بالخرطوم بالليل .! وهو ليل لا تنام بعده العاصمة الا وقد غسلت وجهها وأطرافها وتمسحت كعروس مدت رجليها في غفوة الدلال بعد الانتهاء من وضع حنائها استعداد لعرسها المتجدد في الغد! كانت شبكات الصرف نظيفة عميقة مغطاة تمتص مياه الأمطار لتنساب قبل أن ترتاح ولو قليلا في أحضان الزلط الطارد لها في اتجاه مجراها الذي يسعها مع مهامه الصحية الأخرى ! وهاهي بفضل التطور العكسي تحولت الى مكبات للنفايات ! الان كبرت تلك العروسة وشاخت وتبدل شبابها من عاصمة صغيرة غضة جميلة الى عجوز اكتنزت أطرافها بترهلات لاحدود لها في كل انحاء جسدها الضخم ، وتشققت قدماها وتشمطت كفاها ولم تعد تتقبل حناء الماضي الآفل ! ولعل الصورة أعلاه تعكس كيف ، تراجعت عاصمتنا مجبرة أمام ضغطها السكاني المريع و قصور السلطات في المحافظة عليها كعاصمة ،وافلات زمام الخطط عن أياديهم و التي ترّشد التوسع في البناء وقياس الخدمات عليه وضبط ايقاع الحياة وفقا للمعايير الحضارية ! كل ذلك دفع عاصمتنا للتنازل عن مسماها الرسمي كمدينة ، لتصبح قرية كبيرة ! الخرطوم وكما حكى لي استاذنا الراحل رحمي محمد سليمان طيب الله ثراه ، كان اسمها القديم ، ( سلامة الباشا ) لكن يبدو أن برك ومستنقعات الخريف الذي يفاجي السلطان كل عام ، يجعلها بجدارة تستحق لقب ( سلامة الشعب من الملاريا ) فهل آن الآوان لنبحث عن موقع جديد نبني عليه ما يمكن أن نسميه عاصمة ..أسما ومعنى ؟ مثلما فعل الهنود باستحداث نيودلهي وأهل نيجيريا باتخاذ ابوجا عاصمة سياسية ..؟ هو مجرد مشروع حلم في زمان بات فيه حتى الحلم منكرا غير مشروع !