ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    الجزائر تتفوق على السودان بثلاثية نظيفة    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    وفاة مسؤول بارز بناد بالدوري السوداني الممتاز    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في قصة (طفولة صبيحة الغد) لعبد الغني كرم الله
نشر في الراكوبة يوم 14 - 10 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة في قصة (طفولة صبيحة الغد) لعبد الغني كرم الله ...
عروة علي موسى
[email protected]
أمرت أمي، أخواتي الصغار بالخروج من الغرفة، والغناء في حوش الدار، لعرس وهمي، وعلى طبل من جالون شل، والعروس سارة، والعريس هبة، بمقدور أخواتي ان تتزوج البنت بنتا، وتلد بعد دقائق من العرس فارسا، لا يشق له غبار..
غرفتي بعيدة عن سعال حبوبتي، وقريبة من غرفة اختي الكبرى «حديثة الولادة»، والتى اختزل وليدها كل اللغات في البكاء فقط، سواء أكان جائعاً، ام عطشاً، أو يريد الغطاء، أو حتى فرحاً وعلى أمومة أختى ترجمتها كما ينبغي، وبسرعة البرق، فهو لم يتعلم الصبر بعد، كأمي.
خرست الدار بأوامر أمي، «أمي تحلم بدكتور بهي الطلعة»، ولكن لم يخرس نباح الكلام ونهيق الحمير، وطيف آمنة،وهو أخطرهم جميعاً، ونقّاط الزير، والذي يثير كنه الوقت، بإيقاعه الموزون، مستغلا عتمة الليل، وسكونه...
وضعت أمي فانوس الزيت وسط الغرفة، ألسنة اللهب تتراقص مع النسيم الواهن، والذى يدخل من النافذة، وكأنه يتكاسل من الذهاب لباب الحوش البعيد، مثلي، رغم جبروتها، وقدرتها على إلتهام حقل قمح كامل، كما فعلت في عام تعيس لمخزن خالي دفع الله، تستسلم للنسيم رغم حرارتها القبيحة، ومع هذا لم ينفر منها النسيم، كم تنفر أناملي حين تحرقني على غرة، ويظل مهيمنا عليها، لا يريد ان يقتلها، يتلاعب بها كغزال ولبوة، وهي راضية، ويظهر هذا في رقصها المستسلم، ومعهما يرقص ظلي على الحائط الطيني الخشن، تمتد أنفي حتي الركن، بل تنحني مع الركن، وكأنها تريد ان تشم أي تمرة مخفية، أو طحنية، ومع هذا لم أحس بألم، من تمطط أنفي على حائطنا الطيني، ولكن فانوسنا الزيتي مهجساً بهذه الرسومات السريالية..
تتموج الظلال على صفحة كتاب الجغرافيا، كنت راقداً في السرير، هذه عادتي في القراءة، أمواج من ضوء تتموج على صفحة الكتاب،وبين السطور، نار ونور، كما يلد عصب الحيوانات موسيقى، ضوء شاحب، يحاكي ضوء القمر، جعل غرفتي كمعابد الهنود، مناخ ديني عميق، خلقه نور الفانوس الزيتي، خوف لذيذ، أشبه بخوف الراهب من غرائزه النائمة والظلال التى تختبئ من لهب الفانوس، تتراقص الظلال، في لعبة الاختباء، بسرعة وذكاء، كي لا يراها اللهب، وللحق لم ير اللهب الظلال على الإطلاق، كما لم نر العدم في حياتنا، رغم جري خيالي خلفه طوال الليالي، كل الاشياء تلعب لعبة الاختباء، في ظلالها على حائط الاوضة، وعلى ارضيتها الترابية، ظلال علبة السكر، وبرطمانية الدلكة، والراديو، وترسم اشكالاً غريبة، لم تحلم بها ريشة بيكاسو..وعيون اللهب لم تر الظلال الذكية، الماكرة، حتي الآن..!!
الصفحة «63» من كتاب الجغرافيا، بلا غلاف، متآكل الأطراف، مزخرفة صفحاته ببقايا طعام، وزيت وطحنية، وشعيرية جافة، علقت كالدودة، الصفحة الأخرى مطوية، وممسك الكتاب بيدي اليسرى، واليمنى تحت رأسي، يبدأ الكتاب من الصفحة «17»، وينتهي في الصفحة «113»، والصفحة «17» تتخذ شكل المثلث، كل سطورها ناقصة، ما عدا الأخير، أما الأول فيبدأ بحرف واحد، «ك»، والسطر قبل الأخير ينقصه حرف واحد، أطراف الكتاب منفوشة، حين اضعه على المخدة يبدو كهرم مقلوب، ولكني دائماً ما اضعه تحت المخدة، خوف ان تلتهمه معزتنا الجائعة، القلوب والاسهم التى تخترقها، تملأ اغلب صفحاته، واسماء ثلث فتيات الحلة مدونة عليه، لست انا المجرم،وإن اضفت اسم «آمنة»، في وسط القلب، والسهم يخترقه، وثلاث دمعات حارة، ورب الكعبة، خفت أن تثقب صفحات الكتاب كلها، ولكني خير خلف لخير سلف، بل هناك اسماء فتيات مكتوبة بصورة طفولية، وفيهن من تزوجن، وانجبن، وتطلقن..
«خريطة نهر النيل، المنبع الى المصب». نهر النيل، قريتي تنام وتصحو وتلعب وتبكي وتفرح على ضفافه، يبدو كخيط رهيف، يتعرج من أسفل الصفحة حتى أعلاها، حسب حبه للوهاد، وخوفه من الجبال والتلال، ليس بمقدوره ان يتسلق الجبال كالقرود، ولا أن يطير كالصقور، ولكنه يحبو مثل «سعد ابن اختي الصغيرة، المزعج». والمدن الكبيرة تبدو عبارة عن نقاط سوداء «جوبا ملكال كوستي الخرطوم عطبرة دنقلا، مدني» لا أثرلقريتي، أحسست باضطهاد ما، وبغرور يحتضر، وبخوف من السماء.
حين خرج النيل من يوغندا، هل كان يعرف وجهته، قاصدا أهله مثلاً؟ أما كان يتسكع كمتشرد، جاعلاً من المشى وسيلة وغاية، كالشعراء، هل كان يعلم؟ أو يحس بحدسه المرهف، بأنه سوف يلتقي بشقيقه النيل الأزرق في مقرن الخرطوم، أم كانت مفاجأة سعيدة، جعلتهما يلتحمان في حضن سرمدي، يجرى يسارا، ثم يعود، يميناً ثم يعود، يبحث عن شئ نفيس ضائع، ذهب أم قبر ولي أم شجرة سماوية، كي يقيل فيها، ويروي جذورها السعيدة، هل كان يدرك بأن الخرطوم ومروي ستشيدان على ضفافه، وحقل خالى دفع الله يروى منه، وعباس ابن خالي، سوف يغرق فيه، وأدريس يتوضأ فيه، نعمة ونقمة، حين يثور، يبدو كثور، لم يقتل، كملاك الموت، عاقلا، بل مبشراً بالجنة، بل يعيش فيها، من الذى قتل عباس، النهر أم ملاك الموت، أم هما شئ واحد، هل خرج ملاك الموت، الساكن في الجنة الى الأرض كي يغرق عباس، وجاء للارض، فارق جنته، أم الجنة بداخله، تبدو لي، ان الجنة بداخله، لأنه خالد فيها أبدا، نعم ملاك الموت عاقل، وحكيم، ورحيم، ولهذا يسكن الجنة.. حتى تلك التى بداخله، إنه رحيم، رغم تلوثه بالدماء، وإلا لما سكن الجنة، خالدا فيها أبدا..
دائماً النيل يخرجني عن مذاكرتي، ويجعلني احب الشعر، أكثر من كل الاشياء، أمي حريصة علي، وأنا حريص على غريزتي، أود ان اطير، وأحلق، وأدخل المقابر، واتكلم مع العصافير، وأنام مع جذور الاشجار، وأمي تريدني مجرد دكتور، محاطاً بمرضى، ويملأ أذنيه العطاس والانين والسعال.
صوت الجالون، بل الطبل يخرجني من عالم الداخلي، كعادته كل مساء، يعلو صوت الجالون، الطبل الحديدي، فقد خرج الفارس، من خيال أخواتي، كي يلعب معهن، يتصارعن في الزواج به، سارة وهبة ورشا، يخرج صوت الفارس من فم رشا:
اريد الزواج من سارة!!
تغضب هبة، وتضرب وجه الفارس، وجه رشا، فيبدأ العراك والصراخ، حقيقة لا مجازاً فتصرخ أمى من وراء الحجرات:
اسكتوا يا بنات، مدثر بذاكر!!
ويبدأ العرس الوهمي مرة أخرى، ويعلو صوت الجالون الحديدي، وهذه المرة الغناء من اجل الغناء، أنهن اعضاء بارزات في مدرسة «الفن للفن»..
تصرخ أمي، وتعصى اخواتي، بل لا يسمعن صراخها مع ضجة وهرج العرس اليومي، وللحق، لا أحد يخاف من أمي، وخاصة أخواتي، وأنا.
اسكتو يا بنات..
أمي لا تعرف، ان طيف آمنة بداخلي، أعلى وأغلى وأحلى، من أصوات اخواتي، العاريات، الجائعات أغلب الاوقات، النائحات، في فرحهن، حياة متمسكة بقشة القوت، كي لا تنقرض كالديناصورات، كثقافة شفوية عظمى، ابتلعها فم الزمن، ذلك الماحي العظيم..
فجأة يخرس المكان، تنتهي اليقظة ويبدأ النوم عند أخواتي، بلا نزاع، كحائط كبير أبيض وأسود، وخط مستقيم يفصل بينهما، بين اليقظة والنوم، وكأن اليقظة أخذت حقها كاملاً، وآن للجسد ان ينام، كما يطفأ النور، هكذا تتلاشى اليقظة، كالنور، ويعم ظلام النوم، بل ضياء النوم، فتغرق اخواتي في نوم هنئ، في فسحة الحوش، على اديم الارض، وظل الجالون واقفا، بعد ان فقد روحه، كان طبلا، يوزع وينفخ الموسيقي في جسد الدار الفاترة، تصل ايقاعاته الى الفئران والدجاج والماعز، فتحس بأنس، ويقشعر جلدها له.. وقرونها..
لم يعد سوى جالون، مطفق، مهترئ، بردت اطرافه، من فراق ايدي اخواتي الغضة، والتى تنفخ فيه الروح كالمسيح، بل أنضر، وأخضر.
بيوتنا، نبتت كالنيم من الأرض!!
النهر يجري من أسفل الضفة الى أعلاها، حفر مجرى طويلاً، بلا طورية أو كوريك، كم قويةرقة الماء، ألم تقتل رقة عبلة، عضلات عنتر، لا أثر للتراب على ضفافه، هل ألتهم التراب؟ أم جرى به في بطنه، كحامل، وألقى به في البحر القصي، هل زحف نحو الخرطوم كي يطوقها، بل الخرطوم لم تكن، حين كان، «أين كانت»، اقشعر جلدى، حين محي الخرطوم وقريتي من الذاكرة، وتخيل مكانها غابات كثيفة، وكان النيل يجري لوحده بينها، يا له من زمن، يمحو ويثبت، منذ بداء الزمان، كالارقام، لا نهاية له، ولا بداية..
***
توقظنا الشمس، بعد ان ايقظ الديك، أمي في عتمة الليل، إن كانت حقا قد نامت، وللحق، لم أر أمي نائمة، كنت انام وهي صاحية، واصحو وهي صاحية، بل كثيرا ما كنت اصحو، في منتصف الليل، كي اتبول، فاسمع صوتها «أولع ليك الفانوس»، فأرفض، لأني اعرف طريقي بضوء الذاكرة، وخلال عتمة الليل، تبدأ وردية البول، فتصحو اختي، ثم رشا، ثم سارة، حتي صياح الديك، كنت اتمنى أن اسبق امي في اليقظة، أصحو قبلها، ولكن هل «يسبق الغزال قرنيه»؟
**
تخرج اختي رشا من الدولاب، وأخرج أنا من تحت العنقريب، والنسيم المحمل برائحة الجرير من النافذة، حين نسمع صوت أمى:
- الفطور جاهز..
عبد الغني كرم الله ،،،
القراءة :
إن السرد في مثل هذه القصة هو مساحة ما اختزلته الذاكرة الفردية المتقدة مما عايشت في فترة ما ، فكانت تلك الذاكرة بمثابة المحفز ، والدافع إلى تسجيل مخاضها (سرداً ) أو وصفاً لمشاهد تنتمي إلى حقب مختلفة وأزمنة بعيدة نوعاً ما. (فتهبش ) الماضي وتدغدغ الدواخل بما لها من قدرة على إجبارك للتوقف لحظة لمراجعة هذا الحدث أو ذاك ..
قصة (طفولة صبيحة الغد) قصة يمارس فيها عبد الغني كرم الله قدراً كبيراً من السرد المستند على ما اختزله القاص في ذاكرته لمشهد يومي عاشه في صباه .. مشهد يتكرر في كل البيوت السودانية بنفس الطقوس المتشابهة إلى حدٍ بعيد ، ولكن الأمر عند عبد الغني جد مختلف ، فها هو يخلق لنا من ذلك دوحة غناء من سحر البوح ، وشفيف العبارة ، فيغلب عليك هذا ولا تقدر فكاكاً إلا أن تواصل السير في القراءة وأنت تحس بأنك تعايش تلك المشاهد على شاشة عرض .. لا شيء هنا يعدم ذلك .. النيل والدار والوالدة .. والصبية .. والليل .. والنسيم .. والغناء العذب .. وشوشة الريح للسراج .. وفوق هذا وذلك تقبع هناك في الدواخل (أمنة ) ..
عبد الغني كرم قاص ارتبط إلى حد كبير في كثير من أعماله القصصية على مساحة ما احتوته ذاكرته الفردية من مخزون ، فأجاد في ذلك ووظفه ليكون بمثابة المحرّك والدافع من أجل إحداث نوع من الموازنة في وظائف السرد الممتع والشيق . . وكما يقال : ( إن السردية بجدليتها الداخلية قابلة لكشوفات الذات ورؤيتها ) .
لذا نجد أن عبد الغني قد استفاد من هذا كثيراً وكشف لنا عن ذاته ورؤيته للحياة كما في هذه القصة ( طفولة صبيحة الغد ) . فهي من قبيل تجسيد صراع الذات مع الواقع المعاش ، ومحاولة الانعتاق منه ، ويتجلى هذا في وصف الدار الطينة ، ونصب الأم ، وكدها ، وهزال الأخوات ، ومع ذلك يخلقون الفرخ .
إذاً هذا هو التململ للانعتاق وصراع الذات مع الواقع المعاش .
فالقاص عبر ذاكرته السردية المتوازنة، استطاع أن يجسد لنا الزمان والمكان والشخوص . فكل هذه العناصر أشبعها القاص جيداً ، ففي الزمان ارتبط النص بماضيه الخاص ولم يبتعد عنه وعن أحداثه ، وكان هذا أيضاً واضحاً في عنصر المكان فقد كان معززاً بحميمة جعلت منه مكاناً لكل من يقرأ ويتابع ، واختار لمفرداته بما يتناسب مع وعي الشخصيات (الأم وانحصار دورها في التوجيه المرن / والصبية يمارسن الغناء والضرب على الجالون ) فجاءت العناصر الثلاثة متوازنة بشكل فني يدل على مقدرة القاص على التوظيف ووعيه في ذلك ، فجاء ذلك معتدلاً دون شطط ..
يمكن القول إن القاص اعتمد على حركة الذاكرة في تأسيس حراك القصة ، فمكنه ذلك من قيادة شخوصها وأزمنتها (رغم قلتها وقلة ما صدر منها ) ، ولكنه اتخذ منها مجالاً لاستطراد الذاكرة ، وعرض أجندة الواقع المعاش في ملأ فراغات النص ، فكشف عن مجموعة تصورات ورؤى آنية أسهمت في الصياغة وانكسار الرؤى باتجاه ابتكار صورتها الدلالية ، فترى النص حميمياً كأنه ظلال الصيف في بلادي قبيل المغيب !
يضاف إلى هذا ثمة محاولات عكسها القاص في مجال معايشة الواقع وشظفه ، وأمل الأم في غدٍ واعد ، ومع ذلك حافظ على مجرى الواقع في النص بقدر ما كان هذا سنداً معرفيا ً ساهم في توسيع رؤى القاص ، فالنص غني بتعدد النظرات ، وزاخر بالتنوع والمعرفة بالأشياء والظواهر التي قد تبدو غير ذات أهمية ، ولكنها عند القاص لها مكانة كبيرة ، فحدثنا عن : حريق مخزن خاله دفع الله ، وعن مجرى النيل ، وغرق ابن خاله عباس فيه ، فجاء السؤال كما هو في ذلك الزمن البريء : (من الذي قتل عباس، النهر أم ملاك الموت ؟!) هذا السؤال وغيره ، كسؤاله عن نشاط أمه المعتاد (أتمنى أن اسبق أمي في اليقظة، أصحو قبلها، ولكن هل «يسبق الغزال قرنيه»؟ فكل هذه الأسئلة فادت القاص للغور في ملكوت واقعه المعاش وشظفه !
وثمة أمر أظنه مهماً هو وصف القاص (للجالون) الذي كانت الصبية يضربن عليه ، فتراه يقول : (كعادته كل مساء، يعلو صوت الجالون، الطبل الحديدي، فقد خرج الفارس، من خيال أخواتي، كي يلعب معهن ) وعندما يأتي المساء ويخلد الجميع للنوم (إلا طيف أمنة) نجد القاص يصف الجالون كما يلي : (وظل الجالون واقفا، بعد أن فقد روحه، كان طبلاً، يوزع وينفخ الموسيقي في جسد الدار الفاترة، تصل إيقاعاته إلى الفئران والدجاج والماعز، فتحس بأنس، ويقشعر جلدها له.. وقرونها..) هنا يحاول القاص أن يوجه سؤاله المشحون بالاستغراب والاستنكار : هل يحلو الوجود من غير هذه الضوضاء ؟ فهو يشير إلى حياة الواقع بوجود المجتمع ، وإلى موت الواقع بالخلود إلى النوم ، وكل هذا جعله القاص عبر حركة الرؤية وفعاليتها. فهي نوع من إقامة الدليل لهذا الاعتراض. وحين يجسِّد خاصية رمزه المتمثل بالجالون ، إنما ليؤكد الفعالية الذاتية وأن قلة الحيلة لا تعدم الناس المرح والفرح والسرور ولو عبر جالون ، وهنا يطلق القاص الرمز عبر الموقف الوجودي الآني ليقول لنا إن الذات الإنسانية وبما حباها الله من مقدرات ، ورغم قلة مصادرها لها القدرة على على تحريك الواقع ، فيذهب القاص إلى خلق صورة طفولية برئية عندما يتفتق ذهن الصبية عن فارس يريد الزواج من هذه ، وتغضب تلك ، ألم يجعل الطيب صالح من ( مريوم) نداً لأقرانها وجعلها تبزهم ؟! تلك قصة أخرى ...
فالقاص بسرده الخلَّاق جسَّد لنا تطوراً في الرؤى وتداعياً في اللغة فنمت شعرية السرد ، وقد ألمح القاص إلى ذلك عندما أشار إلى أن النيل يخرجه من مذاكرته ليقول لنا (دائماً النيل يخرجني عن مذاكرتي، ويجعلني أحب الشعر، أكثر من كل الأشياء ) . فهو هنا يشير في خُفية إلى تبخر حلم أمه التي كانت تتمنى أن تراه طبيباً ، فيقودنا ويقود إحساس أمه إلى الخيبة واليأس من تحقيق حلمها (حلم طبيب أغراه النيل فعشق الجفرافيا ) ولكن تبقى لنا ظلال ما جاد به هذا القاص من فيض سردي في كل ما كتب هي السلوى لنا بأننا خسرنا طبيباً نعم ، ولكننا كسبنا أديباً نادراً ما يجود الزمان بمثله فهنيئاً لنا به ، ليت (الحاجة بنت المنى، بت العوض عدلان ) تكون قد أدركت ذلك الآن.
هذا بعض مما توصلت إليه من خلال قراءتي لهذه القصة ، رغم يقيني أن ثمة أموراً تطرقت لها القصة ولم أطرق بابها .. وهذا يعني أن ما لم تدركه قراءتي يترك الباب مفتوحاً لقراءات أخرى ، وكل هذا يأتي من ثراء القصة وقدرتها على تحمل ذلك ، فالقصة تبدو مترعة بالتنوع والمعرفة بالأشياء والظواهر البسيطة المعاشة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.