دولاب أمي !! (صلاة فوق فروة السحب). عبد الغني كرم الله ... دولاب أمي!! (صلاة فوق فروة السحب) وزن القصيدة صعب، أم وزن الفجيعة؟!!. وعزة تستباح.. والنيل يعرض في المزاد.. من يشتري مشاعري، وسقف بيتنا، وحدوة الحصان؟!!. ع.ك. (1) في سقف الدولاب تضع أمي الحلل، وشنطة أخي الأكبر، وتخفي خبيز كيك العيد في جردل ملون، مرسوم عليه ثلاث فتيات يمسكن أيديهن، ويرقصن حول الجردل، كي لا أرى ما بداخله، وأنشغل براشقهتن، تخفيه أمي وراء كرتونة مليئة بملابس أبي الراحل، كي يكون الجردل بعيدا عن عيني ويدي، أنفي ترى في الظلام وتحدد هدفها بدقة أكثر من الردارات، والبوصلة، لو تعلق قلب رجل بالثريا لنالها، الروائح تحب أنفي، فتتلوى، وتنسل من أظلم الأماكن وأخفاها، وتجري مسرعة لشهيقي، كي تدخل رئيتي، وتسمع عن قرب طبول قلبي، وهي ترتل عشقها للخبيز، والموز، والياسمين، والنبق، فأحببت الروائح، والهواء الطيب الذي يحملها، والنسيم المبروك الذي يدفعها كنعاج طيعة لشمي. دولاب بني، ذو ثلاث ضلف، الضلفة اليمنى لأمي، والوسط لأبي، لصقت به مرآة تعكس على ما تقع عليه عينها المسطحة،، واليسرى لنا، ومعي أختي، وبنت خالي، ضلفة أمي مرتبة، كل رفوفها مرتبة، تبدو كقلب، أكثر من مجرد رف، كأن جزء من أمي أنسل منها وملأ الرفوف، ، أحبها وتحبني، ويحب ناقتها بعيري، لهذا السبب يقبل الناس الحجر الأسود، ويقبل العشاق شفتي الحبيبة المببلة باللعاب، وبطنها وسرتها وإبطيها، ويكتحون رؤسهم بالرمل الناعم الاحمر المجلوب من ضريح سيدي الحسن في كسلا، . ضلفة أبي تفوح بعطر \"بنت السودان\"، أما الرف الأعلى من الضلفة فهو للكتب، مصحف مخيط بالقماش، وكتاب تاريخ العبدلاب ومدينة قري، وكتاب طبقات ود ضيف الله في خصوص الأولياء والصالحين، وأغلب حكايات هذا الكتاب سمعتها من أبي وهو يحكي لضيوفه في الصالون الطيني، وأبي يحكي الحكاية وكأنه رأها، بل بطلها، وهويحكي عن العبيد ودريا وادريس ود الارباب لا كأموات، بل يعيشون هنا وهناك، ، يسكنون معنا في البيت، ولكن لا نراهم، كما لا نرى الملائكة، والاصوات والعطور,, وكم تمنيت أن أكون مثل سعيد راجل الكسرة، والذي سافر، وحام الدنيا، في ثوان، بل ذهب لمكوار، وجلس أشهر عديدة، في تلكم الثواني، الأولياء يحبون أحلامي ، ويحاكونها، ويزخرفونها أكثر، وأكثر.. *** مرآة الدولاب، في ضلفة أبي، أنيسي، حين تخلو غرفتنا الطينية، أسرع لها، فلا طفل معي، سوى صورتي في المرآة، رسمت المرآة وجهي بسرعة فائقة، من أين أتت بلون قيمصي المتسخ؟، كيف خلطته ومزجته بهذه السرعة؟، ووجهي والجرح في يسار عيني، وحركة عيني المندهشة من قدرة المرآة على الرسم. لم أطلب منها رسم وجهي، رسمته بلا مقابل، صديقة وفية وصادقة، فهي ترسم الوجه الجميل جميلا، والقبيح قبيحا، لم تجمال حتى شيخ البلد، ذو الشلوخ والجبهة الغريبة، رسمته كما هو، ليتها شوهته، كالمرأة المقعرة، وفطست أنفه، كم هو بخيل، كيف يرى نفسه، في مرآة ذاته، ليتها مثل مرآة ضلفة أبي!!.. *** كان الرف الأخير بمثابة السماء السابعة، لم أكن أصل إليه، إلا بشق الأنفس، أمي وضعت فيه نظارة أبي وجواز السفر \"استعمل لمرة واحدة لزيارة قبر النبي بالمدينةالمنورة\"، كان جواز السفر كتاب جميل بالنسبة لي، رقم الجواز تاريخ صدوره عام 1958، ولونه الأزرق، ورقمه 48591، كان الرقم \"8\"، يبدو لي كخمية تجلس في ظلها آمنة، والرقم \"5\"، شمس جالسة على سرير الافق، والرقم \"9\"، صفارة معلقة علي مسمار في دكان ود السالم، اشتهيها، وقلبي يرنو لها، في كل زيارة للدكان.. كل الأشياء التي تود أمي أن لا تصل إليها يدي كانت توضع فوق ذلك الرف السماوي، كنت حين أتسلل إليه واضع نظارة أبي فوق عيني، كنت أرثى لأبي، فهو يرى كل الأشياء كأنها غاطسة في ماء عكر، حتى الباب يرقص ويتلوى في عيني، كأنه طرحة أختي في حبل ا لغسيل، بكيت لعيني أبي، كنت أحب جواز السفر، لونه أزرق، مثل حنان النبي، كانت صفحاته بخط الثلث والديواني التي تزخرف القرآن، كنت أحب الخطوط، صورة أبي في الجواز مشرقة ألم يصافح النبي في زيارته له في المدينة، هناك ختم أزرق يخفي جزء حاجب أبي الأيسر، تمنيت أن أراه وهو بهذا العمر، حتى لو كبر في قبره، سأتمنى في الجنة أن أراه كما رأيته في صورة الجوز، كي أحس بأنه أبي، والأمنيات في الجنة تأتي إليك كخادم مطيع، \"لبيك لبيك\"، كنت أتخيل النبي رجل أسمر، طيب، وله جلباب أبيض، وله بركة كبيرة، مليئة بالعسل والماء والليقمات، وتعج به روائح الفطيرة واللبن والبخور والأمن وأشعة الشروق الشتوية الساحرة، بلا دوام مدرسي أو مراسيل، بل هدوء وحبور في تلك الغرفة البسيطة الجميلة، كم اشتهي الجنة، كي أتفرج فقط، وأركع كي كي أحسب أرجل أم اربعة واربعين والجراد، والديدان الملونة، وأجري فرحا كي أريها للنبي، وهو يهتم للثروة في كفي الصغير.!! (2) الكارو أجرناها بالدين، بل بالمقايضة، اعطينا جابر، صاحب الكارو، فأس وطربيزة، مقابل نقل الدولاب لسوق الشيخ، دولاب أمي، كي نبيعه في السوق، كشرت الحياة لنا، أنا وأمي وأختي الصغيرة، وحبوبتي، عن انيابها، بعد وفاة والدي، فكيف ندفع مصاريف الدراسة لي،وصرخت في وجهنا الحياة، بصوتها العالي، اللامسموع، (أختاروا بين بقاء الدولاب أو الموت جهلا!!)، صوتها يشبه صوت الغول، الذي تحكي عنه حبوبتي بعد أن تندس الشمس تحت الأرض، لم تختار لنا سوى هذين الخيارين فقط، وأختارت أمي مكرهة الخيار الأول، وأخترت أنا خيار ثالث، فصحت في غضب.. - لن نبيع الدولاب يايمه نظرت لي أمي وبحزن قالت: - كيفين ياولدي لم أقل شئ، نظرت أمي إلى بحزن، ولم تقل شئيا، ثم مسحت على رأسي، كل شعرة تحكي قصة مع الدلاب وضلفه، ونحن نسرع خلف الدولاب والكارو والحمار، والحزن، والأسى.. قد تنسى الحياة الخيارين، وقد تخرف، كما خرفت حبوبتي، وتنسى الدولاب، وتنسى الموت، ونعيش في سلام ووئام... لم أقل لأمي ذلك، هي تعرفه أعمق مني، هي شاعرة عجوز، مثل فضول الأيام المقبلة في معرفة الحاضر،.. *** كانت الكارو مائلة، فإطارها الايمن جلب من عربة تايوتا هايلوكس على ود السالم، مقاس الإطار 42، والأيسر من كرونا صغيرة مقاس 28، فأنكسر زجاج الدولاب بسبب هذا الميلان، حين اصطدم بفرع شجرة نيم ناس فاطمة بت الشباك، وضعت أمي يدها فوق رأسها، لم تلفظ بشئ، بإمكان الأنين أن يكون صامتا، الأنين المسموع، شكوى الخالق للمخلوق، قلب أمي يفسر الصبر بتحمل الخير المجهول \"الشر\"، كل ما يتراءى لنا بأنه شر، في أفصح صوره، هو خير في قلب أمي الغريب!!.. *** عربة الهايلكوس، التي اخذ منها الإطار الأيمن، ترقد في نومتها الأبدية في ركن بيت علي ود السالم، بلا إطارات، مثل ###### ابيض، وضع رأسه وغفى، وصارت مرتع لنا، نركب مقاعدها المتآكلة، وثم نسوقها بسرعة جنونية، دون أن تتحرك قيد أنملة، ونضرب البوري لأي بقرة عابرة، كي لا تطصدمها السيارة المسرعة، وكان البوري مزعجا للجيران، بوري حي يخرج من حناجرنا الغضة الصغيرة، مليئا برزاز اللعاب، وتجفل ا لبقرة من أمام السيارة المسرعة، والتي يسوقها، معا، أكثر من مائة سائق.. *** لف التاجر حول الدولاب، عدة مرات، عينيه الماكرة لا ترى سوى العيوب، مثل تلاميذ المسيح حين رأوا في الصحراء جيفة كلب ميت، فقالوا (ما أنتن رائحته)، ورد عليهم المسيح (وما أنصع بياض أسنانه).. لم يرى التاجر بياض اسنان دولابنا، بل رأى نتانه الزجاج المسكور، بل صاح ممتعضا وهو يفتح ضلفة الدولاب اليسرى: - الضلفة دي مليانه خربشة. - ........!!.. كدت أصفعه، إنها رسوماتي، من جهل العزيز لا يعزه، رسمت على الضلفة دائرة هي الشمس، وخط تحتها، هو الأفق، ورسمت غرفة وشجرة، رسوماتي متقشفة، قلب أمي هو مصدر الثراء والسعة الوحيد في البيت، ثم رسمت دائرة أكبر من الشمس، وجه آمنة، وجه يشرق في ذاتي، أجمل وألطف من شمس الأفق الصغيرة، حتى في الليل، وأنا أحسب النجوم، يشرق وجهها، وأخسر العد. (3) مالت الشمس للغروب، أشترى الناس كل الاشياء، حتى حجارة البطارية المنتهية، أشتراها حمدان لظهر حميره الدامية، لا أحد بالسوق أشترى دولابنا أو دجاجة حليمة، نواح كربلاء يتردد صداه كله، في قلب أمي، نظراتها تبوح بأكثر من ذلك. *** تجمعت السحب فوق السوق، راقبتها وهي ترسم ثم تمحو عشرات الأشكال، نعست، فقد من الجري حول الدولاب، وتسلق رفوفه، والاختباء من أمي وحاجة حلمية، \"انا وين؟ أنا وين؟ شعرت بنعاس عظيم، والسحب الرمادية، أكوام من قطن قديم، فرشت على سماء السوق كله... *** أنهمرت الأمطار، فتحت أمي ضلف الدولاب الثلاث وانزلت الرفوف الخشبية وأدخلتني في الضلفة الوسطى ودخلت حلمية في اليسرى ودخلت أمي وهي تدعو(ياالنبي نوح في ضلفتها \"اليمنى\". استمرت المطرة، طفح كيلها، أنهمرت كسيل رأسي، نهر جارف ينبع في السماء ويصب في الأرض، لم نعد نسمع سوى الرعد والمطر، ارتفع الدولاب بنا، ثم انقلب على ظهره، سفينة خشبية، يسبح بلاهوداة، السماء تبكي، دموعها ناعم عذبة، فتحنا الضلف الثلاث فوقنا بعد ان انقلب الدولاب على ظهره، وكفت المطرة عن السقوط، لم نرى سوى رؤوس الاشجار، بحر مدى البصر، حتى المئذئة لم يسلم سوى هلال الألمونوم، والذي حطته عليه بعض العصافير،، السماء صافية الآن، سوى سحب صغيرة آثرت البقاء والفرجة. ثم جاءت الرياح، وهي تدفر دولابنا برفق نحو الجنوب، مجاديف من وهم، دغدغت وجوهنا، ودفعت الدولاب برفق ونحن نتهتز، تهدهدنا، نسينا كل شئ، بيع الدولاب، أو دجاجة حلمية، كما نسيت النسوة أيديهن الدامية، أما جمال يوسف.. كانت الابقار تسبح قربنا، لا يظهر سوى رأسها وقرونها، مدفونة في تراب الماء الصاف.. توضأت أمي، وهي تغرف من الماء تحتها، أصابني رذاذ جميل، ثم شرعت في الصلاة، صلت أمي على فروة السحب، قريبا من الله، من السماء، نظرت تحتي كان الماء صاف، رأيت الاشجار والمأذت تحتي، والناس تتجول في الشوارع، كأنهم أسماك، أهذا الماء لا يغرق، كالهواء، ولم حلق بنا فقط، كانت الناس تتجول تحت الماء، نزل عصفور مبلول في طرف الدولاب، عصفور ابيض، صرنا سفينة نوح، أمي تصلي، وحليمة نائمة، ودجاجتها تجلس في ركن الدولاب، وهي تتلفت يمنة ويسرى، سعيدة مثلنا بالتحليق، سألت العصفور: - أين عشك؟ - أي غصن، أي شجرة، أي عش.. - أين دولابك. - أنا كثيرة الترحال، وملابسي تولد معي، إنها ريشي، أنا مثل غاندي لي قميص واحد.. (4) صحوت على صوت آمنة، أبنة حليمة الصغيرة وهي تصرخ فرحة، (سعد سعد، جيت الأول جيت الأول انت)، لم يعد أحد في السوق، سوى أمي وحلمية ودجاجتها، والدولاب وأنا، لا أتذكر أحلامي، بل نتف منها، لا أدري كيف حلق الدولاب بنا فوق المآذن، وكيف صلت أمي فوق فروة السحب، وكيف رأيت السندباد ببساطه السحر يطير تحتي، وكيف رأيت جاليلو تحتنا، وهو يراقبنا بالتلسكوب، وقد تصورنا آلهة تحلق، ألم يكن مصيبا؟!!. وعادت كرتونة ملابس أبي، تجلس فوق الدولاب، وملابسة يفوح كنها عطر بنت السودان، وعرقه المبارك، فقد نجحت، وقررت الوزارة، ان أدرس مجاني، لأني اول الدفعة، ولا داعي لبيع دولاب أمي، وعادت طبقات ودضيفه، وقرآن أبي، وكتاب تاريخ العبدلاب، وديوان النابلسي للرف الاعلى، للسماء الأعلى، .. ونسيت الحياة تهديدها، لنا، ليوم الناس هذا، ماذا تريد من ذلك التهديد الحزين؟؟، كم هي ماكرة، عشرة حواس لن تكفي لفهمها!!.. هوامش حزن، على الدولاب القديم، وعودته.. (1) حبيبتي!!.. حين تعودين مساء سدي معك هذا الأفق/ رتبي الكتب على الرف ولا تقربي غبار شعري والأوراق الصفراء وقلم الرصاص والأسلوب الأحدب وفي الصبح خذي معك صوتي للنجار آخر الزقاق كي يعيد لصرير لساني تغريده القديم.. واعتذري للموسيقار عن تأخر اللحن فقد خلقت من الأوتار مشانق للذباب وفي طريق عودتك واشتري لي أوراق بيضاء وقلم أخضر.. وأسلوب أعمق.. (2) العصفور وحبة القمح هاهو فوقي، القاتل الغشيم. كيف ترونه ؟ جميلا!! منقاره الحاد.. لا يعني لكم سوى التغريد... أغراه تكوري وجمالي.. انتم ترون ريشه وتحليقه، وتغريده..... ومنقاره الجميل...( يهدد حياتي!!) ... أه ..لو كان بجسدي الأملس شوكة واحدة.. تحرسني من هذا اللص الطائر... المحلق... الغريد.. فأي ذنب ارتكبته سنابلي، ها هو مناقره الحاد يتجه نحوي... أاااااه... فتحت ريشه الجميل، معدة صغيرة حارقة... تناثر جسدي في فرن معدته القاتلة... وأراكم تصغون لتغريده بخشوع... وشاعرية... أترون ماذا يقول في تغريده الجميل!! \"يا معاشر العصافير... هنا قمح مبثوث، هلموا لسحقه، لإلتهامه..\" أيثير هذا الطوفان الغاشم أسى وجمال في صدوركم المخدوعة.. ما بال آذانكم !! لا تعرف لغة الكون... إنها طبول حرب... وليست تغريد.. (الجاهل العظيم )... تستحقون هذا اللقب... أحن للعودة للوطن، مثلكم لسنابلي، كي ألوح للشمس والنسيم.... والخروج من هذا الفرن الحارق...... وهذا التغريد/التهديد.