جسر الى الشمس فصل من رواية غناء العشاق الثلاثة أحمد الملك [email protected] إحتجنا وقتا أطول هذه المرة لنستجمع قوانا ونتجمع في ذاكرة واحدة، حاولنا تحديد الثغرة التي إنهار بسببها تجمعنا الضوئي، لا بد أن النيازك الهائمة في الفضاء والتي كانت تقترب من مكاننا أحيانا هي السبب في تشتيت تركيز أفكارنا، تحدث أحدنا بصوت هامس شارحا مرة أخرى ضرورة تكاتفنا والا سنبقى الى الأبد في هذه المتاهة. شعرت بالرعب من صوت الرجل وبذلت جهدا كي أبدو متماسكا، كان الرجل يقف بيننا لكن صوته كان يوحي بأنه قادم من عوالم أخرى، وأنه لم يشترك معنا أبدا في حيواتنا السابقة التي كنا نحاول إستعادة أرقام شفرة الوصول اليها السرية. كان صوت الرجل ينتقل من عالم الى آخر، دون أن تتبدد نبرته القوية وثباته على نفس الفكرة. ختم توجيهاته بالقول: يجب أن نركز جميعا في وقت واحد كل أفكارنا في اللحظة نفسها، الإنشغال بأية شئ آخر أو التفكير في لحظة منصرمة او حتى في المستقبل، سيضعف فورا من جهدنا الجماعي. بعد قليل، بدأت حزمة الضوء تتجمع وتتحرك نحو الأعلى ببطء، تنثال عبر حواجز سحب النسيان، فتبدأ ينابيع ضوء خفية تتفجر من حولنا وتحت أقدامنا، تبدأ الحياة تدب في الأشياء من حولنا، نشاهد صور عوالمنا المنسية، كل وقائع زماننا المنسي، تبدو مغطاة بغلالة رقيقة من الضوء والبخار، في إنتظار وصول حزمة ضوء الذاكرة الى الوجهة النهائية حيث ستنفتح لها أبواب عالمنا القديم وزماننا الذي نعرف، تدفقت شحنة الضوء، قوية، محمية بآلهة الضوء ورياحين نهار ضائع في ذاكرة النسيان. تحركنا فوق شلال الضوء المتجه مثل طريق من النور الى أعلى، مثل جسر يمتد وسط الكواكب والبراكين الى الشمس، وفجأة إنتصب أمامنا سور ضخم يمتد على مد البصر. سور مرتفع دون نهاية كأنه يلامس حدود السماء، سرنا قليلا على أمل أن نجد مدخلا ما، وجدنا بعد قليل بابا ضخما، مصنوع من خشب صلب يشبه خشب السنط، حاولنا دون جدوى فتح الباب، كان ثابتا مثل جبل، كأنه لم يفتح منذ الأزل، تقدم أحدنا زاعما خبرته في صناعة الأبواب الخشبية القديمة.أوضح لنا أن الباب مصنوع من خشب غريب لكنه يشبه خشب شجر اللبخ الذي يتميز بقوته ويستخدم مع خشب السنط في صناعة المراكب الشراعية، قال بإمكاني صناعة مفتاح أن وجدت قطعة خشب مناسبة، لكنه حين تفحص الباب لم يجد مكانا لايلاج المفتاح. قال هذا باب حديث رغم أنه يشبه أبوابنا القديمة التي يكون لها مفتاح خشبي ضخم، لكن هذا الباب ربما يعمل بطريقة الأبواب الحديثة التي يسحبها موتور كهربائي. **************** كان عزالدين متعجلا للسفر قبل حلول فصل الخريف، وافقت على مرافقته رغم أنني لم أكن أملك فكرة أو برنامجا محددا، قبل يومين من سفري وصلتني رسالة من قريبي يفيد فيها بأن الاوراق جاهزة وستصل خلال أيام وعلي ان أقوم مباشرة بعد إستلامها بطلب الفيزا من السفارة السعودية. كنت قد وجدت عملا مؤقتا في الفترة الماضية أساعد فيه أحد معارفي وكان يملك شركة لإستيراد المحركات وقطع غيارها، قمت بمراجعة حسابات الشركة لمدة عام كامل حصلت على بعض المال أرسلته لوالدتي، عرض علي صاحب الشركة أن أعمل معه في وظيفة ثابتة ونسبة لإجادتي للغة الانجليزية ستكون مهمتي السفر للهند كل بضع أشهر لعقد صفقات الإستيراد ومتابعة شحن البضائع وتكملة إجراءات الاستلام في ميناء بورتسودان ثم شحنها الى الخرطوم، قبلت العرض مبدأيا رغم أنني لم أكن أحب العمل في مجال التجارة لكن فكرة السفر لفترات قصيرة إستهوتني، لكنني طلبت منه أن أبدأ العمل بعد شهر واحد قررت أن ارافق فيه عزالدين في رحلته. بوصول أوراق العمل في السعودية لاحت لي فرصة العودة للتدريس الذي أحببته، لكن فكرة الغربة كانت مخيفة بالنسبة لي، ولم أقبل بها الا إرضاء لوالدتي التي رأت في وجودي في الوطن خطرا علي، لكن يبدو أن الأجهزة الامنية لم تكن ترغب في وجودي هناك، ربما لإعتقادهم أن مدرسا شخصيته مقبولة في القرية يمكن أن يكون له تأثير مضاد في عقول التلاميذ او بعض أهل القرية. توقعت في البداية أن أتعرّض لمضايقات حتى في الخرطوم لكن شيئا لم يحدث، شعرت فقط في الأيام الأولى بأن لقائي بشخص بعينه تكرر عدة مرات لم يكن صدفة، وحين ذهبت لتوثيق اوراقي قبل إرسالها للسعودية، إبتدرني شخص دون مقدمات بأنه يرغب في تقديم نصيحة لي، وأنه لمس رغبة في التحدث الي لأنني أشبه شقيق له يقيم في إستراليا منذ سنوات. وقال لي أنني لا زلت شابا والمستقبل أمامي فلم أضيعه هنا؟ وحكى لي قصة طويلة عن كيفية سفر شقيقه وحياته هناك، وكيف أن أحواله تحسنت حتى أنه إشترى في فترة وجيزة بيتا في الخرطوم. ذكرني كلامه بكلام ضابط الأمن هناك، ثم أعطاني رقم تليفون لوزير سابق في الحقبة الديمقراطية قال لي أن الرجل لديه علاقات مع سفارات أجنبية ويمكنه مساعدتي في الحصول على فيزا للسفر. شعرت بأن وجوده في المكان لم يكن صدفة، لكنني لم أرهق نفسي بالتفكير كثيرا، وضعت رقم التليفون في جيبي وشكرته وغادرت. قررت عدم السفر، ترددت في البداية لأن بعض معارفي شجعوني على عدم تضييع فرصة السفر، قال أحد زملاء السكن : كيف تضيع مثل هذه السانحة؟ كل من تراهم حولك في هذا البلد يتمنون مثل هذه الفرصة، الأ ترى الحال بنفسك؟ حرب أكلت الأخضر واليابس وحكومة لا يهمها سوى الكرسي حتى لو دفعت بآخر مواطن الى الحرب، وبعد فترة سيقتحمون البيوت بحثا عن كل من يستطيع أن يحمل بندقية، ليرسلونه دون تدريب حتى الى مناطق العمليات. أرسلت رسالة لوالدتي شرحت لها أنني وجدت وظيفة هنا، وأنني أخشى أن أسافر بعيدا وأتركهم لوحدهم في هذا البلد، كنت أعرف انها لن تقتنع بكلامي، والحقيقة انه لم يكن لدي من سبب لسفري مع عزالدين سوى رغبتي في عدم السفر للخارج وتأجيل قبولي لوظيفة بعيدة عن التدريس. يبدو أن والدتي لم تكن سعيدة بقراري، عرفت بعد سنوات أنها أرسلت لي رسالة ترجو مني أن أسافر الى السعودية، حين وصلت الرسالة كنت أنا قد قد غادرت الخرطوم. فصل من رواية غناء العشاق الثلاثة