[email protected] في مسرح السياسة الذي يتحكم في كل مفاصل هذا البلد المنكوب هناك أبطال يصولون ويجولون ويحتشدون ويعربدون بغشم وجلافة في الخشبة. الموسيقى التصويرية البائسة تشعرك بآلة التخلف وهي تعزف مع القدر أحزن الألحان والتي تجعل تطريب السلم الخماسي يتحدرج في الهاوية والفن السابع يرقص مذبوحا من الألم في قاع الحضيض. ستجد مشاهد لا حصر لها مكونة من آيات الكذب والنفاق والمخاتلة لن تفارق نظرك. لعل آخر ما سمعته هو صرف مبلغ 2 مليون دولار على مسابقة حفظ القرآن الكريم والناس تتضور جوعا وتموت بالأمراض موتا. فجلهم باتوا يعلمون تمام العلم من الذي يكذب بالدين وأن تدبر القرآن والعمل به أهم من حفظه ولكن هناك بقية. وكما العين بالعين فإن الفن بالفن. فنحن نفتقر لمواجهة هذا الواقع السريالي لتصوير مشاهد العبث السياسي الإقتصادي والمجتمعي بمسرحيات تعكس الصورة بتجرد ساخر محاولة وضع حلول بطرق فنية خفيفة الظل تصل للجميع وتحث الجمهور على التفاعل. في هذه السانحة دعني احكى لك عن واحدة من أهم المسرحيات والتي تشبه لحد كبير ظاهرة اجتماعية خطيرة ومشكلة نواجهها في مجتمعنا وهي النفاق والإنتهازية ومقابلتها بالطيبة والإنطباعية. فمنذ مئات السنين قام الكاتب المسرحي الفرنسي العبقري المعروف موليير (1622-1673) بالتجول في المدن الفرنسية ثلاثة عشر عاما ليعاشر الناس ويتعرف على عادات وطبائع مختلفة. فكتب بطريقة ساخرة مسرحيات يعالج بها عدة مشاكل إجتماعية. "طرطوف" هي واحدة من أعماله الباهرة. مادتها تتناول وتعالج مشكلة النفاق والتستر بستار الدين أو الرياء الديني الذي كان سائدا في فرنسا وقتها. وللمعلومية هذه المسرحية يتواصل عرضها في كل مسارح العالم الكلاسيكية، بيد انها قد اوقفت لفترة بيد رجال الدين القساوسة ولكنها أدت غرضها، فبعد الثورة يتواصل عرضها في المسارح الكلاسيكية إلى يومنا هذا. تتحدث المسرحية عن رجل إسمه أورغون وهو شخص طيب ولكن إلى درجة السذاجة حيث تطغى عاطفته على تعقله. أورغون يذهب للكنيسة دوما ويعجب برجل دين يدعى طرطوف. هذا الطرطوف يلبس مسوح الصلاح والورع، ولكنه فى حقيقة الأمر كاذب مخادع ونصاب. يستخدم طرطوف مهاراته فى الخداع والاحتيال فى السيطرة على قلب وعقل أورغون الثرى. وبسبب اقتناع أورغون الراسخ ببركة وصلاح وتقوى هذا النصاب يوهمه بإيحاءه بأن يسكن معه، فيدعوا أورغون طرطوف للعيش معه فى المنزل أملا في ذلك أن تتنزل عليهم الملائكة و تتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله فيمن عنده، فيعم الخير على العائلة. سعد أورغون جدا بوجود مشروع حضاري متكامل معه في المنزل. ولكن رويد رويدا، بدأ ينكشف لبعض أفراد العائلة وضاعة وإنحراف وسوء أخلاق طرطوف. الضيف الثقيل يأكل ولا يشبع ويمتد بصره لكل شيئ. طاقته السلبية لا حدود لها. تصرفاته كلها وضاعة وتدل على أنه لا علاقة له بالذوق والتهذيب، ولكن يغطي هذا ببضعة كلمات يتفوهها هنا وهناك وتسبيلات من عينيه ولحيته التي يقطر منها الماء الطهور دوما. وفي يوم من الأيام تحكر في منتصف المنزل وبكل قوة عين وصلف ودناءة طلب من أورغون تزويجه فلذة كبده الشابة مريان برغم علمه بخطبتها بفتى آخر يدعى فاليير، فطرطوف متثاقلا برأيه عمل فيها أضان الحامل. علمت الأم. عندها يحدث نقاش حاد بين أورغون وزوجته ألمير ينتهي بإصرار الأب بتزويج إبنته لهذا المبروك. حينها قررت الزوجة أن تتحدث لطرطوف شخصيا لتطالبه التحلى بالمروءة والعدول عن أمر زواجه بإبنتها لأنها مخطوبة لغيره، ولكنها تفاجأ بالخساسة والنذالة والمفسدة بعينها، إذ يتجرأ عليها فيغازلها ويراودها عن نفسها ويغلق الأبواب. إبنها ديني يشهد هذا المشهد المخزي فيذهب على الفور لوالده أورغون ويحكي له على أمل ان يرى الاب ومن غير إستراتيجية نظر بعينه لا بقلبه فيعرف حقيقة هذا الملعون الفاسد المفسد وأن يدرك معدن هذا الطرطوف المنحرف التالف المتلوف الذى منحه ثقته. لكن كعادة الأب الذي يلبس طاقية في شكل قرطاس مقلوب على رأسه، لا يصدق في هذا التقي الورع المبارك، فيزيد سيلان اللعاب السائل أصلا من شفتيه، فيطلق العنان لغضبه ويعلن حرمان ابنه من ثروته بل ويسجل البيت الذي تقطنه كل العائلة لطرطوف. تتأكد الزوجة من استحالة إقناع زوجها بالكلام لهذا تلجأ لحيلة قبلها أورغون بالعافية. اتفقت معه أن يتخفى أسفل منضدة، ويسمع بأم أذنيه ما سيفعله هذا الأفاق المنافق. وبالفعل يصدم أورغون بضيفه طرطوف التقىَّ الورع وهو يسمعه يحاول إغواء زوجته ويحرضها على الخيانة. وخرج أورغون وهو يحمل الكرت الأحمر، ولكن طرطوف سار على خطى المشير وسحب ساطور ليعلن له صراحة الزارعنا غير الله في الأرض دي يقلعنا. يثور أورغون ولكن دون جدوى فطرطوف هو من يطرد العائلة كلها، لأنه حصل على شرعية من أورغون نفسه ومن مافي. فالبيت وكل شيئ سجله بإسمه، والقانون لا يحمي المغفلين. وهنا كفر الطرطور وصدم أيما صدمة وأخذ يردد عبارة شهيرة تقول (لقد قضي الامر، انني اتنكر لكل أهل الخير). يقول أحد النقاد: حين قرر ارغون التخلى عن انبهاره بطرطوف قرر معه التخلي عن كل الخير واهله حتى غير المنافقين. ولكنه اكتشف انه كان طرطور وهكذا حصلت له صدمة وردة حضارية ستجعله منكفئا على نفسه وفي حالة نفسية سيئة، فإذا لم يطقع بالحجار سيظل طوال عمره يبرم في شعره. في مجتمعنا كميات كبيرة من هذا الطرطوف (سواء ديني او سياسي او ثقافي او صحفي.. أو خليط مشكل يسر الناظرين). وبالمقابل هناك الكثير من الأرغوانيين الذين يسرفون في الحب ويسرفون في الكراهية. وسبب نشوء هذه الأرغوانية هي المبالغة في الحماس لحظة الايمان والإقتناع والتسليم المطلق بكمال ومثالية أمثال طرطوف. وما إن تهتز قليلا الصورة حتى تنهار بشكل تام كل المعايير ومقاييس التمييز. فكل شيئ يزيد عن حده ينقلب ضده. وبسيكولجية ومنهجية، بقدر ما نسعى الى رفض الطرطوفيين وكشف نواياهم الفاسدة فاننا يجب ان نتخلى عن النسق الارغواني الحدي، ونتعلم السيطرة على حجم قناعاتنا والتحكم في ردود افعالنا حتى نتمكن من التمييز بالعقلية النقدية ونترك السلبية كي يصبح مسرحنا هادف وحتى لا يأكل بعقولنا حلاوة أمثال طرطوف فيكتب علينا دوما تمثيل دور سيد جرسة.