!!ا سيد محمود الحاج [email protected] المواطن (ابو الماحي) خدم الدولة لما يزيد عن ربع قرن من الزمان الا ان ذلك لم يشفع له امام تعسف الذين أتوا لرفع لواء الحق وإحياء مجد الدين اذ فصل عن العمل مع مجموعة من زملائه للصالح العام ومنذ ذلك الحين ولسنوات طوال أعقبت ذلك ظل في عملية بحث متواصل عن عمل في أي مجال يوفر له لقمة عيش كريم ولما اعيته الحيلة لم يكن امامه الا ان يلزم بيته ليظل معظم يومه على سريره ووجهه تجاه الحائط لكيلا تتجسد مآساته في كل لحظة يطالع فيها وجه أيّ ٍ من اطفاله السبع . وفي مدة تحسب على أصابع اليد كان كلما ادخره لليوم الأسود قد نفذ وبات لا يملك حتى حق (التمباك) .. حاول في عدة مرات الخروج لتعلم صنعه تمكنه من تدبير أمر معيشته الا ان الغبن والإحباط الشديدين كانا يصدانه عن ذلك ويقتلان كل طموح في نفسه . ذات ليلة كان صاحبنا في مرقده بمعزل عن بقية افراد اسرته الذين مضوا في سبات عميق .. مضت عيناه تحصيان النجوم وهو يقلب الفكر هنا وهناك ولا شيء يسليه في وحدته تلك سوى (الحقة) التي ما برح يعاودها كلما خطرت له فكرة ولما تكاثرت افكاره كان قد اجهز كلية على محتواها وخابت مساعيه في تجميع (سفة) من ما التصق بقعرها بينما انشغلت يداه بتحسس جيبي (العراقي ) لعله يعثر في احدهما على بقايا كيس لكنه ولخيبة أمله لم يجد إلا مسواكاً وحبات قرض يستخدمها في علاج الكحة والزكام .. كان يحمل هم تعبئتها في غدٍ فهو لا يدري ان كان (قسم الله )بائع (السعوط) سيقبل ان يعطيه على الحساب ام لا ففي اخر مرة (نقنق) كثيراً وهو يضرب بحرقة على غطاء الحقة بعد تعبئتها قائلا له انها المرة العاشرة على الحساب . وفي وقت متأخر من تلك الليلة تسلل زائر ليلي الى دار (ابو الماحي) من خلال جدار السور المتآكل ولم يجد صعوبة في دخول الغرفتين .. بحث في جوانبهما طويلا دون طائل ولما لم يحظ بشيء تراءى له جلباب صاحب الدار معلقاً على المشجب فراوده الأمل في ان يجد فيه ما يجعل مغامرته ذات فائدة غير ان المحتويات لم تزد على عدد من الوصفات الطبية وبعض اكياس السعوط الفارغة وقصاصات من ورق الصحف وكان اكثر تلك المحتويات قيمة مسواك اخضر لم يستعمل بعد . عندما استيقظ صاحبنا في الصباح الباكر كان همه الأول (سفة) الصباح التي بدونها لا يستطيع تقليب الامور على جانبها الصحيح ولم يجد بداً من ان يقصد جاره(عبد الباسط) فنادي على ولده ليلحق بعبد الباسط هذا قبل ان يخرج للعمل ويطلب منه على لسان ابيه ان يجود عليه بسفتين او ثلاث ولكن عندما رفع الحقة احس بانها ممتلئة فاستغرب الامر فهو على يقين من انها كانت فارغة تماما وانه بالكاد جمع مما التصق بقعرها وجوانبها سفة. سأل افراد اسرته وهو يكور سفة اكبر حجماً مما اعتاد تكويره ما اذا كان احد اصدقائه قد زارهم صباحا وعبأ هذه الحقة فقالت زوجته ساخرة :"ومنذا الذي يقصد الناس في هذا الوقت المبكر وفي مثل هذه الايام السوداء ليمنحهم شيئاً .. اللهم الا اذا كان نبي الله الخضر "!! لم يفطن الوالد ولا الابن الى وجود وريقة مكتوبة على جانبيها كانت مثبتة اسفل الحقة ، ولولا ان تحركت مع حركة الرياح واصبحت امام ناظري صاحبنا الذي كان ساعتها يرقد ووجهه الى اسفل وهو يخطط بأصبعه على التراب ، لما علم احد من أمرها شيئاً فأمسك بها يدفعه الفضول ليقرأ بين اسطرها ما يلي :_"صديقي صاحب الحقة الخاوية .. عفوا لعدم إلمامي بالإسم ومعذرة لدخولي داركم دون إذن .. واني لآمل ان تشكرني على تطفلي هذا في يوم قريب .. اصارحك بانها ليست المرة الاولى التي ازوركم فيها .. فاذكر انني قد زرتكم من قبل ولا اذكر على وجه التحديد ان كان ذلك قبل عشرة او عشرين عاما لكن الذي أذكره اني غادرت الدار ليلتها سالماً غانماً مسروراً أما الآن فاني اخرج وأنا في غاية الحزن والأسى لا لأنني عائد بخفي حنين ولكن لما آل اليه حالكم وبسبب هذا البؤس الذي تنامون فيه . اين الثلاجة وأين التلفزيون وأين البوتوجاز؟؟..وأين المفارش؟؟.. لا تحسب اني بسؤالي هذا كنت ارغب في اخذها .. كلا ان تحسب هذا فانا لا اخذ الا ما خف وزنه وعظم ثمنه لكني فقط اتساءل عن مصيرها .. لقد وضعتني هذه الزيارة وجها لوجه امام نفسي ولعلها اول مرة احس فيها بصغر نفسي ومدى حقارتها ودناءتها . اصدقك القول بانني حين احترفت هذه المهنة كانت ظروفي افضل بكثير من ظروفك هذه ومع ذلك بقيت انت على حالك ولم تسول لك نفسك بأن تقلق راحة الآخرين وتسطو على اشيائهم . انني لم ار ومنذ ان صرت ممارساً لهذه المهنة بيتاً يخلو حتى من قطعة خبز جاف ولا تتعدي اثمن مقتنياته ثلاثة اطباق خزفية وفنجان مليء بالسكر وانني اعلن لك عن اسفي العميق لكسر احد هذه المقتنيات اثناء بحثي في جوانب خزانة الملابس في منزلكم الخاوي الا من رحمة الله واعدك بانني سوف اعوضكم عن ذلك بعدد من امثاله . ان اكثر ما يدهشني هو كلبكم فقد فقزت على مقربة من حيث كان يرقد بل وقد وطأت ذيله ورغم ذلك لم يحرك ساكنا ولولا ان رفع رأسه قليلاً لحسبته ميتا ولكن بعد ان اطلعت علىحالكم أدركت سر عدم نباحه وقدرت حقاً صموده .. صحيح (الولف كتال) !! .. بدأ لي جيب جلبابكم المعلق منتفخاً مثل جيوب (الجماعة اخوانّا ) فأغراني أيما إغراء قبل ان اكتشف انه لم يكن يحتوي الا هباء (الله يخيبك ياخي..شرطت عينّا ) وإني لأتساءل ما جدوى الإحتفاظ بأكياس السعوط الفارغة ؟.. "طبعاً للشحدة .. يخسي عليك ياشحاد...كمان بعين قوية"!! .. عفواً فانا احب المزاح .. خطر ببالي ان أسألك عن سبب إلغائك الجيب الآخر !.. ألم يعد لك أمل في ان تتبدل الأمور الى الأحسن ؟!.. ألا تعلم يا صديقي انه لا حياة مع اليأس ؟.. عموماً بارك الله لك في مسواكك الأخضر ولا تحمل هم (الروشتات) فقد قطعت عهداً ان آتيك بالأدوية في اقرب فرصة ممكنة لانني قدرت من نومكم هذا انكم جميعاً في حاجة لمثلها فمثل هذا النوم الذي لا يقطعه تكسر صحن على البلاط ولا ضوء مصباح ساطع مسلط على العيون لا يدل أبداً على العافية واتمني ان لو أجد دواء لكلبكم ايضاً .. اطلعت كذلك على كشف الديون ولاحظت من خلاله انعدام أي تعامل بينكم وبين الجزارين .. هل انتم نباتيون يااخي ام انكم تعانون من ارتفاع الكلوسترول ؟؟.. يمكنك يا صديقي و بدءا ًمن يوم غد زيارة الجزار (عبد العاطي ) وكل ما عليك فعله أن تقول له(الشريف بسلم عليك) ولن يتواني عن منحك ماتريد .. وبما انني قد قمت بحصر اجمالي الديون التي في ذمتك فسوف افعل ما في وسعي لتجميع المبلغ المطلوب حتى لو استعنت في ذلك ببعض زملاء المهنة فلا تحمل هماً .في الختام لا يسعني الا ان اقول لك .." جينا لي مكة تغنينا قلّعت طواقينا " .. وأرجو الا تحسب ذلك سخرية أو تأففاً فأنا فقط أمازحك يا صديقي والى ان نلتقي لك خالص تحياتي . صديقك الحرامي ملحوظة : "افرغت لك كل محتوي كيسي في الحقة وامنياتي ان تنعم بسفة صباح هانئة وكمان فتش كويس تحت المخدة ". وضع صاحبنا الورقة من فئة العشرة جنيهات في جيبه الذي لم يأوي مثلها منذ أمد وارتفع صوته الأجش في ذلك الصباح الباكر مغنياً :" يسلم لي خال فاطنة بلالي البدرج العاطلة "!!ا